صدر عن دار الناشر "غوايات" التي تصدر عن مركز الطب الطبيعي للطباعة والنشر والتوزيع ـ بوابة الجنوب صيدا ـ كتاباً قيِماً عنوانه" (أحزاب الله، بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية) لمؤلفه الدكتور العزيز "محمد علي مقلد"، وقدَّم له العلامة الشيخ "علي حب الله"، الذي صدر حديثاً بعد أن كتب مقدِّمته للدكتور المذكور.. وهو تجربة ليست جديدة عليه، لأنه إختمر كتابةً نقديةً في مواقع الوجع في أمتنا العربية والإسلامية، وفي سَفْرِهِ الجديد عودةٌ إلى ماضٍ نافحَ وكافحَ فيه الكاتب "مقلد" طيلة بروز التجربة الماركسية على الطريقة اللبنانية، إلى جانب المفكر في الحزب الشيوعي الشهيد "مهدي عامل ـ حسن حمدان"، الذي كتب في الماركسية ما يكتبه الشيوخ في الإسلام.. توقفت كثيراً عند مقدمة العلامة حب الله، الذي حرفنا بأبعاده إلى حيث لا ترى شمساً من خلال التكثيف بالشواهد، بحيث لا يحتاج الكتاب إلى هذا الإجتياح بجيوشٍ متعددة المصادر.. إلاَّ أنك ترى فيها خيوط ضوء عندما طرح الشيخ حب الله عدة منظومات مفاهيمية، وهاكم بعضها: (1ـ القول بعدم حجية الروايات، هذه التي يسمونها سنة، في التشريع.. 2ـ إلغاء منظومة المستحبات والمكروهات من الفقه، هذه المنظومة ترهق المسلم في سلوكه اليومي.. 3ـ سد باب الإجتهاد في فروع العبادات.. 4 ـ تزواج بين دراسة الفقه ودراسة القانون الوضعي.. 5 ـ إلغاء منظومة الطهارات والنجاسات المادية من منظومة الفقه، إذ لا ذكر لها في القرآن.. المصدر المذكورـ المقدمة ـ ص ـ 46..)
إنَّ هذه المنظومة الرائعة التي طرحها الشيخ حب الله، هي حقيقة قدَّمها على الوجه الصحيح، والذي جاء بها النص القرآني الخالص بريئاً من بصمة الجغرافيا والتاريخ، وإنه بهذا يصبح النص القرآني منهاجاً موضوعياً واسعاً في الحياة، وإلاَّ، ما هو الإسلام الذي يمثِّل هذا المنهاج.؟ هل إسلام الرواية والفقه، الذي جاء متأخراً زمنياً عن تلك الفترة التي جاء بها النص المؤسس الخالص، ما يقارب أكثر من مائة وخمسين سنة على الأقل، وهذا مما ترتَّب عليه تلقائياً، إنقسام السنة بدورها، بين مذاهب الفقه ومدارس الحديث، وأصبح لكل مدرسة ومذهب طريق، وانفتح الباب المسحور، الذي سيحاول فقهاء الرواية إغلاقه عبثاً منذ ذلك الوقت، وحتى الآن، يكتبون تصحيح الحديث، وكتب تصحيح الصحيح.!.
وكنت قد أشرت إلى هذه الكارثة في كتابنا: (سموم النص ـ ص ـ 206).إنَّ إسلام الحديث والفقه الذي قدَّمته مدارس الفقهاء والمذاهب والأحزاب، هو مبنيٌّ على التاريخ الذي قلَّ فيه الضوء، وكثُرت فيه الظلمات، قد قلَّصوه وضيَّقوه بحيث تنقبض فيه دائرة المباح، وتتسع فيه دائرة الوجوب والإلزام، ويتسع فيه الخوف والتوجس من الحرية والعقل، وقيدوهما بسلاسل وأغلال تحت مسمَّى "التقديس".. وأما ما قدمه العلامة حب الله في مقدمته من منظومة مفاهيمية، هو إسلام الوحي المبني على النص القرآني الخالص، بحيث تنزاح عن كاهل المسلم أثقالاً حملهاعلى أكتافه وأقعدته في سريره، مقمَّطاً بقماشٍ لا يفارقه حتى قبره، فيتسع فيه ـ النص القرآني الخالص ـ دائرة المباح، وتضيق دائرة الوجوب والإلزام، ويرتفع فيه سقف التكليف في فضاءٍ واسعٍ من العقل والحرية في مواكبة الحياة الإنسانية،من دون أي حرجٍ ونقص في الدين... بالعودة إلى أخينا الدكتور مقلد، لا شك بأنه قد وافته المنية من الماركسية، وخرج كطائر "الفينيق" من رماد الحزب، ليقرأ الفاتحة على قبر التجربة الماركسية اللبنانية، بعد أن تحوَّلت إلى أصوليةٍ قاتلةٍ ومدمرةٍ ومعاديةٍ لكل شيءً، كما قالها في أحزاب الله والأصولية السلفية بكل مشتقاتها وإشتقاقاتها، " قل لي ما مصطلحك، أقل لك من أنت" المصدر المذكور ـ ص ـ 69)..وأخيراً، إنَّ ما بين مقدمة الشيخ حب الله، الشريك الناقص في الكتاب، وبين الكاتب الشريك، الكامل في الكتاب، أراني مضطرَّاً لمعاودة قراءته لأكثر من مرَّة، كي أتدثَّر ما فيه من حبر الجمر....