شكّل الاعتداء الصارخ الذي تعرّضت له منشآت أرامكو في 14 سبتمبر الجاري، استهدافاً للمملكة العربية السعودية وللأمن العربي، كما للاقتصاد العالمي وأمن الطاقة.
وممّا لا شك فيه أننا أمام فصل جديد من “اللعبة الكبرى الجديدة” للقرن الحادي والعشرين، والتي انطلقت من الساحة السورية في العام 2011 وتستمر فصولا، لكن ما بعد حدث 14 سبتمبر 2019 لن يكون كما قبله بالنسبة لتداعياته على المخاض الدائر ومستقبل الإقليم أسوة بحدث الحادي عشر من سبتمبر الذي تتفاعل آثاره العالمية حتى اليوم.
وبغض النظر عن التوقعات وفي التركيز على التطورات التي ستتسارع في الأسابيع المقبلة وما تحمله من تناقضات وتسويف وردود محدودة، أو مواجهات بالوكالة، يكمُن الثابت الوحيد في استهداف أراضي العرب وثرواتهم وأمنهم الإستراتيجي ودولهم الأساسية، وما تبقّى من نظامهم الإقليمي في خضم إعادة تشكيل النظام الدولي، وما يدور من صراعات دولية وإقليمية محتدمة من سوريا إلى ليبيا، مروراً باليمن وضفاف الخليج العربي.
يتبيّن بعد عملية أرامكو أنها تندرج في خطة إيران للردّ على إستراتيجية أقصى الضغوط الأميركية منذ مايو الماضي، والتي تمثّلت في استهداف الفجيرة وإسقاط الطائرة الأميركية المسيرة وحرب الناقلات وتحريك الأذرع الإقليمية. لكن يصعب في المقابل الإحاطة بالموقف الأميركي وردّ الفعل المتوقّع إزاء التحدي، خاصة أنه في مواجهة المأزق بين التفاوض المستحيل والحرب الممنوعة أو المرفوضة، وضع الرئيس دونالد ترامب نفسه وبلاده في مأزق ولن تكفي البيانات وتشديد العقوبات لأن طهران تراهن على تردّد وارتباك الإدارة الأميركية، وتعتقد أن بإمكانها الصمود حتى موعد الانتخابات الرئاسية القادمة.
توجد واشنطن في وضع لا تُحسدُ عليه خاصة أنه منذ خمسينات القرن الماضي ارتكزت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط على ثلاثة ثوابت: الأول ضمان أمن الطاقة وتدفقها من المنطقة، والثاني أمن إسرائيل، والثالث حماية المصالح الأميركية حيال التحدي والمنافسة.
وبالطبع حافظت الإدارات المتعاقبة على هذه المرتكزات بالرغم من الحديث عن إعادة التموضع باتجاه آسيا والمحيط الهادئ منذ عهد الرئيس السابق باراك أوباما وبدء الاكتفاء النفطي في بدايات هذا العقد. ولذا يمثّل ما يحدث في الخليج منذ شهور تحديا مكشوفا لهيبة واشنطن.
وحسب أكثر من مراقب أميركي فإن سياسة العقوبات أو تفعيل القنوات السرية للتفاوض سيبقيان من دون جدوى، وأن عدم الردّ على عملية أرامكو يعني أن أسس السياسة الأميركية المبنية طوال 70 سنة قد تعاني من التصدّع وفقدان المصداقية مع الحلفاء وفتح الطريق أمام الصين وروسيا والأطراف الدولية الأخرى، وكل ذلك يهدّد استمرارية هذه السياسة وفعاليتها.
وبالطبع لا يُعدُّ ذلك غريبا لمن يتابع حلقات المسلسل الطويل للصلات بين واشنطن وطهران منذ عام 1979 إلى يومنا هذا، حيث يلاحظ أحد الخبراء اللبنانيين الذي عمل سابقاً في العاصمة الفيدرالية أن “إيران الخميني وخامنئي أهانت مختلف الإدارات الأميركية منذ أربعين سنة (رهائن السفارة الأميركية في طهران، الهجوم على المارينز في بيروت.. وإسقاط الطائرة الأميركية المسيرة حديثاً) ولا شيء يوحي أن ذلك سيتغيّر مع إدارة دونالد ترامب لأن الولايات المتحدة تعوّدت على ذلك”.
ربما هناك بعض المبالغة لأن تقاطع المصالح الذي برز ضد العراق وفي أماكن أخرى تحت عنوان “الحرب الكبرى ضد الإرهاب” ربما يفسر التهاون الأميركي والسعي لتكون إيران شريكاً مفيدا في الإقليم كما راهن على ذلك أوباما، أو لأن إيران كانت تعود لتهادن أو تساوم مع واشنطن لانتزاع دور “الشرطي الإقليمي” الذي لطالما راودها منذ أيام الشاه. لكن يبدو أن التوفيق بين بدايات التراجع الأميركي في الشرق الأوسط، وإصرار طهران على تمديد “الحقبة الإيرانية” في الإقليم يصطدم بعودة روسيا القوية، والطموح الصيني للحلول تدريجياً مكان القوة الأميركية “الراحلة ولو بعد حين” حسب تحليل بكين.
وكل هذا يزيد من تعنّت إيران ويجعلها تستخف بمنطق سياسة العقوبات وتواصل التصعيد تحت سقف معيّن، وتتمسك بزمام المبادرة نتيجة عدم رد واشنطن على إسقاط الطائرة المسيرة ومساومة لندن على خطف الناقلة البريطانية.
تسعى طهران عبر ممارسة الابتزاز والضربات العسكرية المدروسة بشكل مباشر أو عبر أدواتها، إلى الاستفراد الدول العربية في الخليج والتركيز على المملكة العربية السعودية، القوة العربية والإسلامية، ودورها الناظم في سوق الطاقة وإنتاجها. وعلى ما يبدو لا تبالي إيران بجرّ المنطقة إلى حرب، أو زيادة في منسوب التوتر ربما لإيجاد مخرج ولو محدود من أزمة اقتصادية تتفاقم في الداخل الإيراني. وبما أن اعتداء 14 سبتمبر الأخير يُعتبرُ اعتداء على الاقتصاد العالمي لا سابقة له، وإزاء عدم تحبيذ العمل العسكري من قبل الرئيس ترامب بالذات، ركّزت الرياض على أن المسألة تعني المجتمع الدولي مع تمسّكها بحقها السيادي ودراسة الوسيلة المُثلى للرد.
وفي سياق التمديد أو التسويف ستحوّل واشنطن الأمر إلى مجلس الأمن الدولي وتنتهز مناسبة انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن موسكو وبكين ستلجآن على الأرجح لتذويب أي قرار أممي وإفراغه من مضمونه، وكل ذلك سيزيد من تداعي الهيبة الأميركية.
ولذا يبقى موضوع الرد مدرجاً على جدول أعمال البنتاغون لأنّ ترك التعرّض للاقتصاد العالمي من دون عقاب سيكون سابقة سيئة وضربة إضافية لنفوذ واشنطن.
يدلّ الموقف الأميركي المتردد والتأهب الروسي والصيني لقطف الثمار والمواقف الأوروبية الحذرة، على أن الحلقة الجديدة من لعبة الأمم في شبه الجزيرة العربية والخليج ستتواصل وتشكّل تهديدا للوجود العربي. ومن يشاهد مؤتمرات دونالد ترامب وإفاداته الصحافية وتغريداته التويترية يعلم جيّدا أنّ الثوابت تتساقط كما الثقة بينه وبين حلفائه، وأنّ التعويل على واشنطن وحدها غدا سرابا.
من ناحيته يقوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحريص على تسويق سلاحه ومنظومات دفاعه الجوية بتقليد ترامب ولا يختلف عن نهجه في النفعية الاقتصادية. أما الصين التي تحتاج كثيرا إلى الطاقة الآتية من منطقة توجد على “طرق الحرير” فتلعب دوما أوراق القوة الناعمة من دون التفتيش عن ردع إيران التي تهدد الاستقرار وأمن الطاقة.
وفي نفس سياق ابتزاز العالم العربي والسعي إلى تقاسم ثرواته والنفوذ فيه نطالع موقف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الشامت من السعودية أو موقف بنيامين نتنياهو الذي استعجل ضمّ غور الأردن في هذا الجو الإقليمي المشحون من أجل انتخابات ما لبث أن خسرها، ونراقب كذلك موقف أكثر من طرف أوروبي يتمسّك بالدور الوسطي والاتفاق النووي من دون العناء بالتشديد على ثني إيران عن الاستمرار في نهج سلبي ذي تبعات خطيرة.
بعد قرن على اتفاقية سايكس – بيكو ووعد بلفور وما حلّ بدنيا العرب حينها، يتم التعامل اليوم مع العالم العربي وكأنه الرجل المريض لهذا القرن.
ولذا يمثّل الخروج من الانكشاف الاستراتيجي العربي أولوية عبر صياغة الحد الأدنى من الاندماج وإعادة النظر بالتحالفات وعدم التسليم بأن الصراع الدولي سيكون على حساب العرب مهما كانت الأثمان والتضحيات.