حدَّثني صاحبي فقال: زرته يوم تولِّيه منصب الإفتاء، بعد دعوةٍ كريمةٍ منه والتفاتة غير بريئةٍ لزملائه في سلك الإفتاء، للمباركة والتبريك، بعد أن تمَّ تعيينه بشكلٍ رسميٍّ، لقد لفَّني آنذاك بسرِّ سعادته وفرحه المفتوح والمقبل على دنيا لا يعرف لذَّتها إلاَّ من ذاق عسلها وعسيلتها ورُطبها، وما وعد الله به المفتون من حُسن العاقبة إذا ما أقبلوا على الدنيا لزهدٍ يُضمِرُ تعلُّقاً بأثدائها ورغدِها، بطريقةٍ لا يعرفها إلاَّ العاشقون والهائمون على وجوههم من جنَّاتٍ عرضها السماوات والأرض، وأذكر وأنا الوحيد المدعو من الجماعة الملتحية ممن لا تتوفَّر فيه شروط المنصب وأدوات النصب..
لا أدري ما دمتُ لا أفقه سرَّ السياسة ومسح الأجواخ، او العباءات التي باتت مسيطرة على الأرزاق، فهالني هذا المشهد الذي احتوى ما احتوى من جهابذة القوم ممن يعيشون في دائرة الإشكالية مع الغير، حيث يصبح الماء مشكلةً عضوضةً تستوجب تحليلها لمعرفة عناصر النجاسة فيها والطهارة، وتحليل التربة أمام أكواخ الفقراء لمعرفة نسبة النجاسة العينية فيها، كونها عائمة على نفط مجاريرهم، حتى لا يقع المؤمن فريسة شيطنته وشيطانه، فيُحلِّل له ما حرَّمنا ويُحرِّم له ما حلَّلنا، لتسهيل مروره اليومي إلى كوخه حتى لا يقع في مشكلة الخطيئة.. وهالني أيضاً ما سمعتُ من أكثرهم عن مشاكل النساء والعلاقات الزوجية التي تكدَّست أوراق مشاكلها على الطاولات المختصة عند المرجعيات صاحبة الإختصاص المذكور، وكلٌّ يروي روايته ويقصُّ قصته عن امرأةٍ جميلةٍ يستوجب طلاقها لأنَّ الجمال فتنة!
إقرأ أيضًا:" التجربة أقوى من النص...! "
في حين أنَّ الجميع أجمع بإجماعهم المحصَّل على حرمة طلاق المرأة البشعة وضرورة أن تبقى في حبال زوجها، لأنَّ هذا النوع من الطلاق أكثر ما يكرهه رجال الله قبل الله تعالى.. عجبتُ من هذا الفهم الذي تشارك فيه جميع المدعويين دون استثناء، وكأنَّ الدِّين مجرَّد امرأةٍ جميلةٍ يسكن تفاصيلها وتضاريسها طلاَّب الله والدِّين، هممتُ بتوديع صاحبي قبل أن يتفرَّق الجميع، لكنه أصرَّ على استبقائي إلى آخر المهنئين، ليُزوِّرني قصر مكتبه حيث تتوزَّع فيه الغرف المفروشة بشتَّى أنواع السجَّاد العجمي والقُمي، والمكاتب الخشبية المصنوعة في بلاد الكفر، ونتيجة للودّ الذي يجمعنا أدخلني إلى غرفة نومٍ كاملةٍ في مكتب قصره، وقال لي: هذه الغرفة من أجل الإستجمام والراحة بعد ساعات من الأعمال الشاقة في وُرَشِ الطلاق، هنا أحسستُ بمدى تعبه وكدِّه بحمل أمانةٍ أبت عنها السماوات والأرض والجبال وأبت أن يحملنها، وحملها سرير الشيخ المؤتمن على أمانة الله تعالى...