يتفق كل المراقبين على أنّ حجم الهجوم أشبه ما يكون بـ»ذبحة قلبية»، اصابت المملكة في شريانها الاقتصادي، وقد لا تتعافى منها سريعاً، حتى وإن استأنفت انتاجها النفطي، كما تأمل، ومعها اقتصاديات العالم، ذلك أنّ الهجوم المسيّر الذي تبنّاه الحوثيون، كشف عن نقاط ضعف تمظهرت اخطر تداعياتها في عدم القدرة على تأمين الحماية لمنشآت «أرامكو»، وبالتالي ضمان عملية «اكتتاب» طبيعية في عملية خصخصة الشركة، وهي العملية التي يراهن عليها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لتأمين التمويل اللازم لخطته الاقتصادية «رؤية 2030»، التي تشكّل الأساس لمشروعه السياسي.
مما لا شك فيه، أنّ الهجوم اكثر من موجع للمملكة، لأنّ آثاره شديدة السلبية ومن الصعب جداً ازالتها او احتواؤها في المدى المنظور، ومن شأن ذلك ان يرتّب أثماناً باهظة على المملكة، وعلى الاقتصاد السعودي خصوصاً، وهو ما خلصت اليه قراءة ديبلوماسية غربية للحدث السعودي وتداعياته.
هذه القراءة ترى انّ السعودية بعد هجوم «ارامكو»، امام خيار من اثنين:
- الخيار الأول، هو المضي قدماً في التصعيد، وإعادة حشد التحالفات الإقليمية والدولية، لمحاولة كسر الحوثيين الذين تبنّوا المسؤولية المباشرة عن هذا الهجوم. وهذا الكسر يعني الذهاب بعيداً في استهداف اليمن، بتصعيد عسكري غير مسبوق، تتوخّى من خلاله المملكة تحقيق نصر عسكري واضح، تسعى اليه منذ بداية الحرب على اليمن منذ سنوات.
- الخيار الثاني، هو قبول المملكة الدخول في مفاوضات مع الجانب الحوثي، او مفاوضات مع الجانب الايراني المتهم بتغطية الهجوم على «ارامكو»، وحتى بالاعداد والتخطيط له، إلّا أنّ هذه المفاوضات من الصعب على السعوديين الذهاب في اتجاهها، لانّ معنى ذلك هو الإقرار بالهزيمة وتسليف انتصار ثمين للحوثيين وللايرانيين من ورائهم.
يعني ذلك أنّ الخيار الاول، هو الأكثر ترجيحاً، ولكن هل هذا ممكن؟
تلفت القراءة الديبلوماسية لهجوم «ارامكو»، الى انّ الحدث، وإن كان على الارض السعودية، إلاّ أنّ القرار لم يعد هناك. فهذا الحدث سبق الكل، والمواجهة لم تعد على خط السعودية - الحوثيين، ولا حتى على خط الرياض - طهران، بل اصبحت جزءًا من الصراع الأكبر بين الولايات المتحدة الاميركية وايران.
فاستهداف «آرامكو»، ربما يكون قد دفع الأمور بالفعل إلى ما يتجاوز «المناورات» المتتالية على خط الصراع الأميركي - الإيراني. فالهجوم الذي أصاب قلب صناعة النفط في السعودية، أصاب بشكل أو بآخر ركيزة أساسية في الاقتصاد العالمي، ومن هنا فإنّ معناها الاستراتيجي يكمن في تجاوز الخطوط الحمر التي ظل الكل ملتزماً بها طوال الفترة الماضية.
وتبعاً لذلك، لا تقف القراءة الديبلوماسية عند حدود التوقعات القائلة إنّ التوتر سيتفاقم بين الاميركيين والايرانيين، بل تجزم بأنّ المواجهة ستأتي لا محال.
فالمسألة بالغة الخطورة مقارنة بمحطات التصعيد السابقة بينهما، والتي وصلت في لحظات معيّنة الى مشارف بدء عملية عسكرية رداً على إسقاط طائرة التجسس الأميركية في مياه الخليج، ولكن تراجع عنها في آخر لحظة الرئيس الاميركي دونالد ترامب. ومن هنا، فإنّ خطورة الهجوم على «ارامكو» توجب رصد شكل الرد الاميركي على استهداف الشريان النفطي السعودي، وكذلك طبيعة الرد المضاد من إيران.
الّا انّ أحد الخبراء في السياسة الاميركية يستبعد خيار المواجهة المباشرة بين الاميركيين والايرانيين في الوقت الحاضر، ويقول، إنّ الهجمات على بقيق وجريص تمثل نقطة تحوّل في العلاقات الإقليمية والدولية. وبالرغم من الأسئلة عن مصدر الهجوم، والنفي الإيراني الرسمي للمسؤولية عمّا حدث، فإنّ ايران متهمة في نظر الجميع، ولكن يجب ان نتمعن في الصورة. فإذا كانت طهران مسؤولة فعلاً عن الهجوم، فإنّ هذا يؤكّد بوضوح أنّ القدرات العسكرية الإيرانية يمكن أن تشكّل تهديدًا خطيرًا للمصالح الاستراتيجية للغرب، بحيث لم تعد نقاط الضعف في إمدادات النفط تقتصر على مضيق هرمز، بل بات يشمل القدرة على ضرب منشآت برية، في هجوم واحد من شأنه أن يخفّض الانتاج النفطي السعودية إلى 50 في المئة!
علاوة على ما سبق، يضيف الخبير في السياسة الاميركية، فإنّ أيّ حديث عن ضربة محدودة، كما يجري التداول حالياً في الولايات المتحدة، ليس خياراً واقعياً. إذ لا يشك أحد في أنّ إيران ستردّ على الردّ الأميركي بتكلفة كبيرة، ومخاطرة أكبر باحتمال تدحرج الوضع إلى حرب شاملة. ويُضاف إلى ما سبق، أنّ ترامب ينبغي أن يفكر كثيراً قبل أن يحدّد شكل الردّ، الذي يمكن أن يُشعل حرباً يقول إنّه لا يريدها. وهنا يكمن المأزق الكبير بالنسبة إليه، فإذا ما ذهب إلى الحرب سيكون قد نكث بوعوده الانتخابية، وإذا لم يردّ فسيتمكن خصومه الديموقراطيون من الهجوم المضاد عليه، عبر تصويره رئيساً ضعيفاً وغير فعّال.
ولعلّ مخططي السياسات في إيران، والكلام للخبير نفسه، يدركون أنّ ترامب يتعرّض لهذا النوع من الضغوط، بسبب الحملة الانتخابية المقبلة، ومن هنا يمكن فهم جوهر الاستراتيجية الإيرانية الأخيرة في مواجهة التصعيد الأميركي الذي اتخذ منحى تصاعدياً منذ الانسحاب من تسوية فيينا.
كل ما سبق، في رأي الخبير، يجعل «الستاتيكو» القائم في الشرق الأوسط منذ اكثر من عقد من الزمن على المحك. فإذا لم تكن الحرب خياراً مُسْتَعَدًّا له من قِبل أميركا وايران على حد سواء، فإنّ هذا الشكل من التصعيد لن يقود في نهاية المطاف إلى التفاوض، أيّ الحل المقابل للحرب الذي يمكن أن يخرج العلاقات الإقليمية والدولية الحالية من عنق الزجاجة.
الّا أنّ أهم ما يلاحظه هذا الخبير، هو أنّ فرص الحرب تبقى أعلى من فرص السلم، خصوصاً أنّ ثمة عاملاً جديداً قد يلقي بظلاله على الأزمة القائمة، وهو كان شبه محيّد خلال الأسبوعين الماضيين، والمقصود هنا إسرائيل، التي ربما تكون الجهة الوحيدة في العالم المستفيدة من سيناريوهات الحرب، لأسباب كثيرة، منها تصفية الحسابات الإقليمية مع إيران، وامكانية أن توفّر لها الحرب الشاملة فرصة حشد العالم في حرب - ستكون مؤكدة - ضدّ محور المقاومة الممتد بين العراق وسوريا ولبنان وغزة.
ولا يغيّر في الأمر، يقول الخبير نفسه، أنّ إسرائيل تعيش اليوم مأزقها السياسي الكبير، بعدما أظهرت نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة عجز بنيامين نتنياهو عن الذهاب إلى تشكيل ائتلاف حكومي جديد. في حال كهذه، لن تجد إسرائيل سبيلاً لتجاوز أزماتها الداخلية سوى الهروب إلى الأمام من خلال الاندفاع نحو الخيارات العسكرية، بما يعنيه ذلك من تحويل الداخل الإسرائيلي من «مجتمع سياسة» إلى «مجتمع حرب»، ترتقي فيه مصالح «الأمن القومي» على الخلافات السياسية الضيّقة. ولعلّ أخطر ما انتجته هذه الانتخابات، الى جانب المأزق الحكومي القائم، هي أنّها جعلت أفيغدور ليبرمان الفائز الوحيد، الذي سيكون قادراً - في حال صحّت التوقعات أنّه سيكون شريكاً حكومياً - على الدفع نحو سيناريوهات عسكرية خطيرة، بما في ذلك المضي قدماً نحو تأجيج الحرب الشاملة.