من سخريات القدر أنّ معادلة الحكم في لبنان عادت، كما كانت قبل 2005: السوريون و»حزب الله» كانوا يتولّون أمور الأمن والسياسة الخارجية، والحريرية السياسية تأخذ على عاتقها الاقتصاد والإنماء. حتى إنّ دور فرنسا الإنقاذي الذي بدأ بموتمر باريس 1 عام 2001 ما زال مستمراً وفق معايير لم تتبدَّل، وقد وصل إلى باريس 4 (سيدر)، والبقية تأتي.
يعمل «حزب الله» جاهداً لتقليص الضغوط التي يتعرض لها دولياً، ولاسيما أميركياً. وحتى الأمس القريب، كان يستعين بالشريكين السنّي والمسيحي في الحكم، أي الحريري و»التيار الوطني الحر». لكنّ رصيد «التيار» لدى الأميركيين يتآكل، حتى إنه صار مستهدَفاً بالعقوبات. والورقة الوحيدة التي يمكن «الحزب» أن يستخدمها، للحدّ من الضغوط، هي الحريري. وزيارة رئيس الحكومة واشنطن أخيراً جاءت في هذا السياق.
في الوقت عينه، بين ثلاثي السلطة (عون- بري- الحريري) طبيعي أن يبقى رئيس الحكومة هو الأقدر على مخاطبة المملكة العربية السعودية وإقناعها بفكّ الارتباط بين مساعداتها للبنان وموقفها السلبي من «حزب الله»، على رغم كل الأقاويل عن مدّ وجزر في العلاقات بين المملكة والرجل.
ويعتبر «الحزب» أنّ رصيد الحريري في المملكة حيوي جداً لاستقرار الواقع المالي والاقتصادي، وتالياً صمود التركيبة السياسية التي توفِّر له التغطية. وفي هذا المعنى، يقول أحد العارفين: لو كان الحريري اليوم خارج السلطة، لكان «حزب الله» وحلفاؤه قد سارعوا إلى إقالة الحكومة القائمة والاستعانة به، لأنّ مصلحتهم تقتضي ذلك.
وفوق ذلك، يتعامل أركان الحكم مع الدعم الفرنسي من خلال قناة واحدة هي الحريري. وبناءً على ذلك، تبدو أهمية الدور المطلوب من رئيس الحكومة أداؤه، مع أصدقائه السعوديين والفرنسيين، تجنّباً لانهيارٍ يمكن وقوعُه في أيّ لحظة. وحتى الآن، حصل لبنان على وعود سعودية وفرنسية، وتبقى الترجمة العملانية التي يراد من الحريري تحقيقها في جولته الحالية بين الرياض وباريس… وستليها على الأرجح جولات عربية.
حضر دوكان إلى لبنان، قبل أسبوعين، لمواكبة لقاء بعبدا المالي- الاقتصادي وإعداد موازنة 2020. وبعد لقاءاته بالمعنيين أبدى شكوكاً في جدّيتهم في إجراء الإصلاحات المطلوبة، وإن كانت هناك خطوات إيجابية ضمن إطار محدود.
كان المسؤولون ينتظرون من دوكان أن يهلِّل لمجرد إقرار موازنة 2019 ولو كانت ملامح الإصلاح فيها محدودة جداً، وبدء التحضير لموازنة 2020 في موعدها مع ما تتضمّنه من وعود إصلاحية. ويريد الطاقم السياسي من دوكان أن «يقتنع» بما جرى، ويعتبره كافياً لبدء الإفراج عن المساعدات المجمدة.
لكنّ الضيف الفرنسي حمل انطباعاته السلبية وغادر إلى باريس لإطلاع الرئيس ماكرون عليها. وبالنسبة إلى الطاقم السياسي في بيروت، فهذا يعني أنّ ماكرون سيتبنّى وجهة النظر المشكِّكة بالإصلاح وستبقى المساعدات الموعودة قيد التجميد حتى إشعار آخر.
بالنسبة إلى أركان الحكم، هذا التجميد هو الكارثة بعينها، لأنّ المؤشرات اللبنانية كلها سلبية، بلا استثناء، كما قال دوكان نفسه في بيروت. وربما يدفع لبنان ثمن الانتظار غالياً، إذا تعرَّض لصدمة مالية أو نقدية.
فالحاجة تبدو عاجلة إلى ضخّ كميات من العملة الصعبة في السوق، إما كمساعدات أو كودائع أو في شراء سندات. وهذا ما بدأ السعوديون يتحركون في اتجاهه بإعلانهم خطوات وشيكة في هذا الشأن. والخطوة السعودية ستكون مبرِّراً لقيام دول عربية أخرى بخطوات مماثلة.
لقد اتفق أركان الحكم على تكليف الحريري مهمة «ضبط حسابات» الجمهورية، بدءاً بالمساعدات الموعودة. وثمّة مَن يقول إنه في باريس سيعمل على إقناع ماكرون- ومعه دوكان- بإيجابيات ما تحقق في بيروت حتى الآن.
وبعبارة أخرى، سيسابق الحريري دوكان في إقناع الرئيس الفرنسي، ويقول له ما معناه: نرجو منك أن تقتنع بوجهة نظرنا لا بوجهة النظر المتشدّدة التي ينقلها دوكان، وأن تمارس باريس نفوذها ورصيدها لدى الجهات المانحة لبدء تسييل المساعدات. فلبنان في وضع دقيق، وإذا وقع الانهيار فلن تعود المساعدات الموعودة كافية للإنقاذ، وسيصبح لبنان في وضعٍ ميؤوس منه، وستكون عملية إنهاضه صعبة ومكلفة جداً.
وسيكون أمام ماكرون أن يقتنع بوجهة نظر الحريري «المستعجلة والمتساهلة»، أو بوجهة نظر دوكان «المتريّثة والمتشدّدة»، علماً أنّ الحريري ودوكان سيلتقيان ويتناقشان مجدداً.
أحد الوزراء الذين واكبوا عن كثب زيارة الموفد الفرنسي الأخيرة سُئل: بمعزل عن الكلام الديبلوماسي الذي قاله الرجل علناً عن المسؤولين اللبنانيين، ما هي الأجواء التي سينقلها فعلاً إلى الرئيس ماكرون؟ فأجاب: ماكرون ليس في حاجة إلى مَن يضعه في الأجواء. هو يعرف كل شيء. وأما دوكان فكان مطلوباً منه أن يحمل إلى لبنان رسائل التحذير من الأسوأ...
إذاً، ماكرون هو صاحب التحذير الذي أطلقه دوكان قبل أسبوعين في بيروت. وواضح أنّ باريس تتقصَّد التشدّد هذه المرّة. ومن هنا، وبعيداً عن النظرة الطوباوية التقليدية التي تنطلق من اعتبار فرنسا «أُمّاً حنوناً» للبنان، يصبح ممكناً التساؤل:
هل مِن أهداف سياسية وراء هذا التشدُّد؟ وهل يسارع الفرنسيون في اللحظة الحرِجة إلى إنقاذ، ولو لم يتجاوب مع الإصلاح؟ وربما يمكن أن ينطبق السؤال إياه على الولايات المتحدة والسعودية ودولٍ أخرى.