منذ أسبوعين والإعصار «دوريان» يدكّ جزر البهاماس في البحر الكاريبي. خارج فصل الأعاصير، تعدّ الجزر الجميلة محطة أولى في جنات السياحة حول العالم. أما عندما يمر بها «دوريان»، فتبدو جزءاً من الجحيم؛ منازلها بلا سقوف، جدرانها ممسوحة بالأرض، وأرضها طين طريّ الناس غرقى في عذابه.
في ساعات يحوّل «دوريان» قصيدة تي. إس. إليوت «الأرض اليباب» إلى «الأرض الخراب». يختلط البر بالبحر، واليابسة بالفيضان، والحياة بالموت، ويتساوى الفقر بالغنى. لكن ليس تماماً؛ ففي حين تصمد البيوت الحجرية في وجه لجاجة «دوريان»، تُباد من أمامه تماماً بيوت التنك التي يعيش فيها المهاجرون من هايتي. وهؤلاء هم فقراء البهاماس جيلاً بعد جيل، يعيشون في أحياء الصفيح ومعهم الخرافات التي يحملونها معهم من البلد الذي أرسى فيه كريستوف كولومبوس لدى اكتشافه «العالم الجديد». وقد أصبح العالم غنياً في كل أطرافه، إلا في هايتي، وإلا حيث هاجر الهايتيون.
القاتل «دوريان» أعمى، بعكس القتلة من البشر. لا يميز ضحاياه ولا يرسل القناصة إلى مفارق الطرق. لا يبيد الأحباء وفق الخرائط. يهب ويتفجر ويفجّر، غليظاً، قاسياً، وبلا رحمة. ويغرق نحو ألف إنسان تحت الطمي. ويجوع الفقراء ويزيل الخبز. أما الإنسان فإنه يرمي بالرصاص الطوابير الواقفة أمامها لكيلا يحمل الآباء أرغفة إلى أبنائهم.
يخرج الإنسان إلى الطبيعة للتمتع بجمالها وفضائها. يذهب إلى البحر للتنعم بمياهه وسعته اللانهائية.
لكن الويل عندما تخرج الطبيعة على الإنسان، ويرقد البحر على الأرض. ما أجمل الاعتدال في الإنسان وفي عالمه. يا لها من نعمة أن يولد الإنسان عاقلاً في بيئة طبيعية عاقلة... مهما اختلفت الفصول على الأرض. فالصيف عندنا هو الشتاء في أميركا اللاتينية. وعندما نقول هنا: «اللهم نجّنا من حرّ يوليو (تموز)»، يقول البرازيلي: «اللهم نجّنا من برد يوليو».