تبني الولايات المتحدة في عوكر مقراً لطاقمها الديبلوماسي ستفوق تكاليفه المليار دولار، وُصِف بأنه أكبر من سفارة، لكنّه أصغر من قاعدة عسكرية. ووفق المحللين، هي إشارة إلى مدى الأهمية التي توليها واشنطن لنفوذها في لبنان، أو لموقع لبنان قاعدة لنفوذها في الشرق الأوسط.
طبعاً، ليس في لبنان جيشٌ أميركي أو فصيل لبناني مسلَّح يشكّل جزءاً من المنظومة العسكرية الأميركية، على غرار إيران و«حزب الله» في لبنان. ولكن، واقعياً، للولايات المتحدة دور لا يمكن تجاوزُه. فهي الضامنة لأمن الحدود اللبنانية جنوباً، وبدعمها المباشر يستطيع الجيش اللبناني ضمان سلطته على الحدود الشرقية، وبه تخلّص من «داعش» صيف 2017.
والسلاح الأميركي هوالعمود الفقري للجيش اللبناني. وعبثاً حاول الروس أن ينافسوا واشنطن في تسليحه، إبّان زيارة الرئيس ميشال عون لموسكو، العام الفائت. فقد ردّ الأميركيون بالتهديد بسحب اليد من لبنان عسكرياً ومالياً وديبلوماسياً، فتراجع اللبنانيون فوراً.
ويبتسم البعض ساخراً عندما ينظر إلى المدمِّرة الأميركية التي ترسو في مرفأ بيروت منذ أيام، والتي تشكل جزءاً من الأسطول السادس في المتوسط. ويقول: طالما سمعنا دويَّ القذائف التي أطلقتها البوارج الأميركية خلال حرب الجبل، عام 1983، دفاعاً عن قيادة اليرزة الموالية للأميركيين والميليشيات الحليفة. وعلى رغم ذلك، إنّ هذا المحور هو الذي خسر الحرب.
ولكن، في المقابل، ثمّة مَن يبتسم ساخراً أيضاً، ويقول: في بيانٍ مقتضب، قبل أيام، حذّرت عوكر من مغبة استهداف زعيم المختارة وليد جنبلاط. وهذا البيان كان كفيلاً بوضع الأمور في نصابها وفكّ الحصار عن زعيم المختارة. فهل من المنطقي أن يكون بيانٌ من بضعة أسطر أشدَّ فاعلية من الأسطول السادس؟
في اعتقاد محللين أنّ الأميركيين يستخدمون القوة الناعمة وغير المباشرة في لبنان. والدليل هو أنّ إيران، بكامل قوة ميليشياتها، لا «تخربط» معادلة التوازن القائمة. ولا مجال لتركيب السلطة في لبنان إلّا بضوء أخضر أميركي. وعلى الأقل، تحتفظ واشنطن بالقدرة على ممارسة «الفيتو» والتعطيل.
وطالما كانت السلطة في لبنان تقوم على تسويات بين واشنطن ودمشق، وتشارك فيها أطراف أخرى كالسعودية أو مصر أو فرنسا أو إيران. لكنّ الأميركيين والسوريين هم الأكثرُ ثباتاً في المعادلة… على الأقل، بقي ذلك قائماً حتى اندلاع الحرب في سوريا.
في مراحل سابقة، خلال الحرب الأهلية في لبنان، كان لواشنطن حلفاء يؤمّنون توازناً حقيقياً، بالمعنى السياسي والعسكري، مقابل القوى المناوئة. ولكن، بعد اتفاق الطائف، التزمت دمشق لبنان. وحصل الأميركيون على ضمانة بأنّ الرئيس حافظ الأسد سيحفظ لهم حصتهم في التسوية. فلا بأس بأن يوفّر عليهم مشقّة الغرق في التفاصيل اللبنانية.
ولم تغيّر واشنطن نظرتها إلى هذا الملف إلّا مع إدارة الرئيس جورج بوش، عام 2005، عندما نضجت الظروف لتغيير المعادلة الشرق أوسطية الكبرى. فـ«الربيع اللبناني» كان إيذاناً مبكراً لاندلاع أحداث «الربيع العربي» عام 2010 وما بعده.
اليوم، مَن هي القوى التي تشكل شريكاً أو حليفاً تعتمد عليه الولايات المتحدة في لبنان؟
يقول المطلعون: ليس منطقياً إدراج قوى 14 آذار، السابقة، في هذه الخانة. فهذه القوى التي تلقّت دعم واشنطن عام 2005، ومعها وصلت إلى قمة النفوذ في السلطة، باتت اليوم ضعيفة وأسيرة المهادنة التي عقدتها مع «حزب الله» عام 2016.
وبديهي أنّ واشنطن ما زالت تنظر إلى الرئيس سعد الحريري وجنبلاط والدكتور سمير جعجع بعين العطف، لأنهم لا يصطفون في المحور الإيراني، بل يسايرونه فقط. إلّا أنّ الهوامش التي يمتلكها هؤلاء ضيّقة. فيما هناك قوى أخرى كالنائب سامي الجميل وأخرون مستعدة للإفصاح أكثر عن رفض نهج «الحزب»، لكنّ حدود تأثيرها في المعادلة لا تكفي لإحداث التوازن.
لذلك، ما يرتاح إليه الأميركيون فعلاً هو حجم رصيدهم في المؤسسات الرسمية الحيوية، ولا سيما الجيش ومصرف لبنان. كما أنهم يعرفون أنّ هناك حدوداً لا يمكن حتى لحلفاء «حزب الله» أن يتجاوزوها، كـ«التيار الوطني الحر» والرئيس نبيه بري، في رئاستي الجمهورية والمجلس النيابي.
ففي أيّ حال، لبنان الرسمي يحتاج إلى التغطية الأميركية على كل المستويات، ومن دونها يصبح عارياً في أيّ مواجهة. وعندما يهدِّد الأميركيون بتوسيع دائرة العقوبات لتشمل هؤلاء الحلفاء، حتى أولئك الذين ليسوا من الطائفة الشيعية، فإنما يحاولون شدّ القبضة إلى الحدّ الأقصى. لكنّ قرارَ «الخنق» له مستلزمات أخرى.
يعرف ذلك كل المعنيين في لبنان، وفي مقدمهم «حزب الله» نفسه الذي يلعب الورقة إياها، من جانبه. فهو أيضاً مستفيد من الرضا الأميركي على تركيبة الحكم التي تؤمّن له التغطية. أي أنه يتعاطى براغماتياً مع الواقع الأميركي.
وفي المقابل، يتعاطى الأميركيون مع «الحزب» ببراغماتية. فهو جزء من المعادلة لا يمكن حذفه أو تجاهله. فقط المطلوب الضغط عليه لضبطه. فممنوع أن تقع الحكومة المركزية اللبنانية، ولبنان عموماً، تحت سيطرة أيّ قوة إقليمية أو دولية أخرى.