يسهل للمتابع للجلبة المرتبطة بالانتخابات التشريعية الإسرائيلية، التي ستجري الثلاثاء، أن يستنتج الترف الذي باتت إسرائيل تعيش فيه، بحيث لم تعد خطط السلام أو مستقبل التسوية مع الفلسطينيين همّا انتخابيا تتمحور حولها الحملات الانتخابية. وتكاد لغة القوة والتفوق العسكري تسود لغة المرشحين، من عتاة اليمين إلى مغامري اليسار، مرورا بالوسط الصاعد. ويكاد الحسّ الوجودي الذي لطالما طبع انتخابات العقود السابقة يغيب عن برامج الأحزاب والتحالفات الإسرائيلية، ذلك أن هذا التفوق الاستراتيجي ينعطف على تصدّع الجبهات الإقليمية المضادة وتضاف إليه حالة التفكك وتضخم الأورام داخل المنطقة العربية.
لم يعد أي تيار سياسي في إسرائيل يجازف بالحديث عن مشروع سلام أو تعاط مع المبادرة العربية (مارس 2002) أو إعادة تنشيط اتفاقيات أوسلو (سبتمبر 1993) أو تخصيب تلك التي أبرمت في كامب ديفيد مع مصر (سبتمبر 1978) أو في وادي عربة مع الأردن (أكتوبر 1994). فذلك شأن لم يعد جاذبا للناخبين، ووعي بات مفقودا لدى العامة. وفيما ينغمس الإسرائيليون داخل مؤتمرات الأمن في هرتسليا على تسليط المجهر على الأخطار التي تهدد إسرائيل، وفيما يخطّ الخبراء دراسات مقلقة عن القنبلة الديموغرافية العربية داخل فلسطين التاريخية، أو ما تشكّله إيران وبرامجها التسليحية (النووية خصوصا) من “أخطار على أمن اليهود”، فإن منابر المرشحين تتقدم متنافسة في الوعد بممارسة المزيد من القوة المدمرة ضد الأعداء، مندفعة في تبادل المزايدات التي تخلص إلى عدم الاعتراف بدولة فلسطينية ما، في يوم ما، والوعد بإزالة أيّ أخطار بقوة الترف الكبير الذي تعيشه إسرائيل في هذا العالم.
نكاد لا نلحظ فروقات كبرى في النصوص السياسية لليكود عن تلك لتحالف أزرق أبيض (شكّله رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، بني غانتس، مع رئيسين سابقين للأركان، موشيه يعلون وغابي أشكينازي، ويائير لبيد، زعيم الحزب الوسطي “يش آتيد”)، أو تكتلات اليسار (التي أحيت إيهود باراك مجددا والذي يتحدث وحيدا عن تسوية إقليمية شاملة). وعلى هذا تنعدم ترجيحات الفوز الكبير للسيطرة على أغلبية مقاعد الكنيست الـ120، وتحضر مجددا فرضية أن يأتي الناخبون ببرلمان فسيفسائي لا غلبة داخله تسمح بتشكيل حكومة. حدث أمر ذلك بعد الانتخابات المسبقة الأخيرة قبل أشهر (أبريل الماضي) وقد يحدث الأمر عينه هذه المرة بما قد يؤشر إلى إمكانية الذهاب إلى انتخابات ثالثة.
والحال أن إيران قد ساهمت، للمفارقة، في توفير أجواء الترف الوجودي الذي تنعم به إسرائيل هذه الأيام. نجحت طهران بمهارة في أن تتقدم إلى المنطقة العربية بصفتها خطرا حقيقيا ينافس ذلك الإسرائيلي الذي تربت الأجيال العربية على إدراكه منذ قيام دولة إسرائيل.
استطاعت إسرائيل أن توحّد العرب، أيا كانت توجهاتهم وتياراتهم وأنظمة حكمهم، على التعامل مع القضية الفلسطينية بصفتها “قضية العرب الأولى”، ومقاربة إسرائيل بصفتها كيانا عدوا. استطاعت إيران أن “تسطو” على القضية الفلسطينية وتغلق كافة فروعها العربية وتحتكرها، مزايدة بذلك حتى على الفلسطينيين أنفسهم. راحت طهران تجد فلسطين في غزة من خلال حركتي حماس والجهاد مثلا، ولا تجدها في رام الله مع السلطة الفلسطينية وحركة فتح ومنظمة التحرير. وجدت إيران لفلسطين موقعا رحبا للتسويق من قبل ميليشياتها الشيعية في باكستان وأفغانستان، قبل تلك التي في العراق وسوريا ولبنان. وبات الحوثيون في اليمن يَعِدون بأن طريق القدس تمرّ عبر صنعاء والحديدة.
بات الموقف من فلسطين ومن إسرائيل وجهة نظر. وبات -وفي هذا وجاهة- من العرب من يجد أن إيران تشكّل خطرا على الأمن القومي للبلدان العربية، وأن إسرائيل في المقابل لم تعد تشكّل ذلك. أنتج سقوط الأيديولوجيا العربية سقوطا لفكرة العداء العقائدي لإسرائيل ورواجا لفكرة التعامل مع هذا الكيان بصفته أمرا واقعا تمارس معه أنواع خجولة متصاعدة من التماس. وللمراقب أن يلحظ كمية المنافع المتبادلة بين إيران وإسرائيل، بحيث أن تبدّل الموقف العربي أتى بعد عقود من الصدام مع إسرائيل الذي كان دمويا موجعا ومكلفا للعرب (خصوصا لدول الطوق)، فيما أن قرصنة إيران لقضية فلسطين تأتي مجانية لا تكلف إيران شيئا من ذاتها، وأن من يدفع ذاك الثمن ما زالوا عربا داخل بلدان العرب.
تدرك إسرائيل أن الزمن تغيّر، وأن قيامها قبل عقود بضرب بلد عربي، كان يُقابل بهيجان جماهيري شامل يأخذ واجهات شكلية متفاوتة. وتدرك في المقابل، بأن العرب، أنظمة وشعوبا، لا يثقون بغيرة إيران على ما كانت “قضية العرب الأولى”، وأن قيام إسرائيل بضرب أهداف لإيران في السودان، قبل سنوات، وفي سوريا ولبنان، لاحقا، وفي العراق، مؤخرا، لا يحظى بأي رد فعل عربي شعبي متضامن مع إيران أو حاضن لـ”نضالها” المزعوم من أجل فلسطين، وان شعار “تدمير إسرائيل” الإيراني لا يُصفق له في المنطقة، كما تم التصفيق منذ عقود للشعار العربي الداعي إلى “رمي إسرائيل في البحر”.
تتعامل إسرائيل مع الأخطار المحدقة بها تعاملا تقنيا لا حاجة لمواكبته بمشروع سياسي يستشرف تسوية سلمية في الشرق الأوسط. تحظى إسرائيل بدعم غير مسبوق من قبل الولايات المتحدة، ونالت خلال إدارة الرئيس دونالد ترامب ما لم تنله من إدارات سابقة، ولاسيما لجهة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل أو الاعتراف بالجولان جزءا من تلك الدولة. لكن ما قد لا يُلحظ هو أن هذا “الدلال” الذي تمنحه واشنطن لحليفتها لا يقابل بأي عناد من قبل العالم، لا في أوروبا ولا في روسيا ولا في الصين. وفيما قد تختلف موسكو وواشنطن داخل ملفات كثيرة، بما في ذلك داخل الملف السوري، إلا أنهما متوافقتان متضامنتان متواطئتان في الاعتراف بـ”حق إسرائيل في الدفاع عن أمنها”، ترعيان حراكها العسكري الحيوي، غير المسبوق، الذي توسع باتجاه العراق مدمرا أيّ آمال كانت تعقدها إيران لشقّ ممرها الاستراتيجي المتوخى باتجاه البحر المتوسط مرورا بالعراق ولبنان.
لا تُخاضُ الانتخابات الإسرائيلية من أجل تموضع إسرائيل بشكل أفضل ضد خصوم الخارج. تدور تلك الانتخابات على قضية واحدة هي مصير بنيامين نتنياهو. فإذا قيّض للرجل الفوز برئاسة الحكومة من جديد، فسيحطم بذلك الرقم القياسي في الحكم الذي حققه قبل ذلك ديفيد بن غوريون الذي يُنسبُ له تأسيس دولة إسرائيل. مشكلة القدرة على تشكيل حكومة مرتبطة بشخص نتنياهو وإمكانية الذهاب إلى انتخابات مبكرة للمرة الثالثة قد تكون متعلقة بمسألة القبول أو عدم القبول به رئيسا لحكومة لا يمكن في تاريخ إسرائيل إلا أن تكون ائتلافية.
سبق لزعيم “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان أن حرم نتنياهو، قبل أشهر، من هذا المنصب برفضه انضمام حزبه إلى حكومة يرأسها نتنياهو. في المقابل فإن ائتلاف أزرق أبيض لا يمانع في تشكيل حكومة مع الليكود شرط ألّا يرأسها نتنياهو. وعلى هذا فإن سلاح نتنياهو يكمن في الذهاب بعيدا إلى الضفاف الأكثر يمينية بالتحالف مع الأحزاب الدينية (الحريديم)، واعدا إياها بالمزيد من الامتيازات في الفضاء الاجتماعي، مقابل أن تطلق يده في الفضاء السياسي.
الرهان يكمن هنا والجدل في ثناياه مرتبط بهوية من يمكنه أن يصنع رئيسا للحكومة ببضعة مقاعد. هذا رهان ليبرمان الذي يتقدم بخطاب علماني ضد الأحزاب الدينية، معوّلا على اجتذاب الكتل الناخبة المدنية والمدينية، ولا ينافسه في ذلك إلا توقف بني غانتس عن التودد للأحزاب الدينية وانتهاجه خطابا علمانيا مدنيا ينهل من خزان ليبرمان وحقوله.
لا تهم تصريحات نتنياهو عن ضم غور الأردن. فهو يبحث عن رد فعل شاجب ناله بسهولة.
وفيما يتوسل المتنافسون حظوظهم من الداخل، وحده نتنياهو يستورد دعما خارجيا يتسرب من علاقاته مع ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويعمل على الإيحاء للناخبين بأن وجوده في السلطة هو جزء من المشهد الدولي ويحظى برعايته.
الجلبة مسلية للإسرائيليين، مُملّة للعرب. ولم تكسر هذا الملل إلا صواريخ أسدود التي أيا كانت أجندات إطلاقها فهي تشوّش على “نهاية التاريخ” التي يصدح بها ترف الساسة وناخبيهم في إسرائيل.