اجمع كل من التقى الموفد الأميركي دايفيد شينكر المكلف تسهيل عملية ترسيم الحدود بين لبنان واسرائيل على قراءة شبه موحدة لمواقفه ونواياه وما يريده من زيارته وما يتوقعه من مهمته. فهو الى تأكيده مدى الدعم السياسي والعسكري والإقتصادي للوضع في لبنان وحرص بلاده على امنه واستقراره رغم كل ما يجري في محيطه، كان متشدّداً في موقفه من سلاح «حزب الله» وصواريخه وبرامج العقوبات الإقتصادية والسياسية الجاري تنفيذها تباعاً بحق عدد من مسؤولي «حزب الله» والإيرانيين. فهو كان على علم انّ مجموعة جديدة من العقوبات ستصدر في حق مجموعة من القياديين في الحزب و«الحرس الثوري» وممَّن لهم علاقة بالبرنامج النووي الإيراني قبل أن يغادر بيروت.
ويقول احد الديبلوماسيين من عارفيه منذ سنوات عدة انه كان لا بد لشينكر من ان يقوم في زيارته الأولى باوسع جولة من اللقاءات مع المسؤولين اللبنانيين على اختلاف المواقع الرسمية والسياسية والعسكرية والحزبية، فهو مطران جديد عيّن حديثاً على «ابرشية لبنان»، ولا بد من «جولة رعوية» ليجدّد من خلالها صداقاته المتعددة مع المسؤولين اللبنانيين والتعرّف الى آخرين. فهو في حاجة ماسة الى تعزيز كل أشكال التعاون مع القيادات اللبنانية، بحيث يكون قادراً على فتح خطوط الإتصال معها في الأوقات الحرجة المتوقعة، كما عبّر أمام عدد من معارفه في لقاءات متعددة بقيت بعيدة من الأضواء سواء تلك التي عقدت في السفارة الأميركية ام في اماكن أخرى لم تشر اليها البيانات الصحافية.
وكان لافتاً انّ شينكر لم يخصّص في لقاءاته كبار المسؤولين والباقين كلاماً لهذا او ذاك، ممَّن التقاهم، فقد حافظ على لهجة متشددة تجاه ايران و»حزب الله» وهو ما لم يثر استغراب احد.
فالزيارة تلازمت وسلسلة من المواقف التي اطلقها الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله ولم تخلُ من تبادل الرسائل ذات السقوف العالية. فلا يمكن الفصل بين هذه المواقف التي أعقبت سلسلة العقوبات الأخيرة التي فرضتها واشنطن على مسؤولي الحزب والتي بلغت اعلى مستوى عندما طالت رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد وأحد نوابه ومجموعة مغمورة من القادة العسكريين على وقع ملاحقة مَن تتّهمهم بتوفير الدعم المالي الخارجي في افريقيا واميركا اللاتينية سواءٌ على مستوى الأشخاص أم الكيانات أم المؤسسات، تزامناً مع العقوبات المصرفية التي طالت «جمال تراست» بنك لمجرد اهتمامه بإدارة حسابات اللبنانيين الشيعة المغتربين والمقيمين في افريقيا ولبنان وفي اكثر من دولة في العالم.
وخصّص شينكر جزءاً من مداولاته للبحث في صلب المهمة التي تولّاها حديثاً خلفاً لمجموعة من السفراء والموفدين الأميركيين منذ اكثر من عشر سنين، ومن حيث انتهى آخرهم السفير الأميركي الحالي في انقرة دايفيد ساترفيلد.
ولفت امام كبار المسؤولين عن مجموعة من الأفكار التي قدمها بشكل ايجابي ومباشر في اكثر من لقاء، ولا سيما مع الرسميين على خلفية فهمه العميق للملف اللبناني فهو من اختصاصه لسنوات عدة في معهد واشنطن، وابرزها على سبيل المثال لا الحصر:
- انّ ما أحرز من تقدّم على المسار البرّي يشجّع على المضي في فتح المناقشات في المجال البحري على قواعد جديدة لا تتجاهل ما تحقق في السابق، وخصوصاً انّ ما اعاد التصويب بشأنه سلفه السفير دايفيد ساترفيلد لم يخرج عن الخلاصات التي توصل اليها عاموس هولكشتاين وقبله كريستوفر هوف، وهو سيستكمل المهمة من حيث انتهى ساترفيلد.
- إنّ التركيز في المرحلة المقبلة يتأسّس على التفاهم على كيفية احتساب الخط البحري باتجاه الشمال او الوسط ليكون خطاً مستقيماً، كما يريده لبنان انطلاقاً من النقطة «B1» البرّية في الناقورة.
وهو المسار الذي يحدّد مصير المفاوضات البحرية لبتّ مقاس المنطقة المتنازع عليها من المنطقة الإقتصادية البحرية الخالصة للبنان مع الأخذ بعين الإعتبار المعطيات الناتجة من الإتفاق اللبناني – القبرصي الظالم في حق لبنان – سواء عن سوء إدارة الملف او غيرذلك – والتي قادت الى الخلاف بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي على مسار الخط.
- لم تعد الإدارة الأميركية تعطي أهمية للمهلة التي اعطتها اسرائيل الى سلفه ساترفيلد في الزيارات المكوكية التي قام بها في حزيران الماضي بين تل ابيب وبيروت، وإنّ تجاوز هذه المهلة بات ممكناً من دون أن يربط بين هذا التقدم والخلل الحكومي في اسرائيل الناجم عن إلغاء الإنتخابات النيابية السابقة والدعوة الى تنظيم أخرى في الأسبوع المقبل.
- الحرص على الستاتيكو القائم في الجنوب، فالقواعد التي تطبَّق بموجب قواعد الإشتباك التي ارساها إقرار 1701 لم تتبدّل، وان العودة الى تكريسها سيؤدي حتماً الى توفير الأجواء التي تسمح بانطلاقة المفاوضات من جديد حول عمليات الترسيم وتعزيز الهدوء في المنطقة.
- على الحكومة اللبنانية أن تعبّر عن تعهّدها بالعودة الى مبدأ النأي بالنفس بشكل أوضح، فالتغطية التي يحظى بها «حزب الله» تقوده الى خطوات متهوّرة، والأخطر أن ترتبط الساحة اللبنانية بالساحات المجاورة فيفتقد لبنان مناعته والدعم الدولي.
وامام هذه المعطيات لا يمكن قياس ما حققه شينكر اليوم، فالمهمة الحقيقة لم تبدأ بعد، وزيارته الحالية محدودة النتائج، والرهان أن تفتح الطريق الى المفاوضات في وقت قريب، قد يبدأ الأميركيون باحتسابه عملياً بعد الإنتخابات الإسرائيلية، وسط توقعات بأن لا شيء مهما قد تتسبّب به خسارة رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو للانتخابات او العكس.
فالإدارة الإسرائيلية للملف ليست عند رئيس الحكومة شخصياً بقدر ما هي على لائحة اهتمامات الإقتصاد الإسرائيلي والمكلفين بإدارة الثروة النفطية والعسكر، وإن كان نتانياهو او غيره سينفّذ ما يتقرّر في الغرف النفطية والإقتصادية والعسكرية المغلقة.