فبعد الجنرالين مايكل فلين واتش ار ماكماستر جاء دور جون بولتون، صحيح انّ لكل منهم اسبابَ اقالة مختلفة عن الآخر، الّا انّ ذلك لا يبدّل شيئاً في النتيجة الحاصلة. الخلافات بين الرئيس ومستشاره كانت بدأت تتسرب الى الصحافة قبل فترة، لكنّ لتوقيت إقالته الآن معاني اخرى.
فللرجلين اسلوبان مختلفان، ولو انّ التهويل يبقى قاسماً مشتركاً بينهما، إلّا انّ ترامب يستخدم التهويل والضغط للتوصل الى عقد صفقات مع الخصم، فهو رجل اعمال ناجح بلباس مرقط. اما بولتون فهو يجاهر بمواقف تحمل الكثير من التهديد ويدفع باتّجاه ترجمتها فعلياً على ارض الواقع.
لذلك اختلف بولتون مع رئيسه، كما مع وزير الخارجية مايكل بومبيو في الكثير من الملفات: كوريا الشمالية وروسيا وافغانستان وايران. على سبيل المثال، هو ابدى غضباً شديداً بعد تراجع ترامب عن تنفيذ ضربة عسكرية انتقامية رداً على إسقاط ايران طائرة التجسّس الاميركية، وهو الذي كان قد كتب في «نيويورك تايمز» قبل تعيينه مستشاراً للأمن القومي أنه لمنع إيران من الحصول على القنبلة النووية علينا أن نقصفها.
لكنّ بولتون الذي عارض بشدة محادثات بلاده مع «طالبان»، اتّهمه المقربون من الرئيس الاميركي بوجود بصمات له في إجهاض الاتفاق الذي كاد ان يبصر النور فيفتح الابواب امام عودة الجنود الاميركيين من افغانستان، وبالتالي منح ترامب ورقة انتخابية قوية هو بأمسّ الحاجة اليها وسط إخفاق في السياسة الخارجية وبداية تعثّر في الاقتصاد الاميركي.
يتجاور مكتب مستشار الامن القومي مع مكتب الرئيس الاميركي داخل البيت الابيض ما يؤدّي الى حصول عدة لقاءات يومياً بينهما، وهذه ميزة لا يتمتع بها سوى مستشار الامن القومي.
لكن السؤال الاهم يبقى في هوية الشخص الذي سيخلف بولتون، ذلك أنه سيُعتبر مؤشراً واضحاً للسياسة التي سينتهجها ترامب من الآن وحتى موعد الانتخابات الاميركية. فمثلاً، هل سيعطي الأولوية لملفّ الشرق الاوسط، وتحديداً الكباش الدائر مع ايران بعد أن احترقت ورقة افغانستان ام أنه سيضع في المرتبة الاولى صراعه مع الصين؟
في التسريبات الأوّلية حديث عن ترجيح عدة اسماء ابرزها:
- دانيال بليتكا وهي عملت مسؤولة الشرق الاوسط في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب. وتعتبر متخصصة في ملفات الشرق الاوسط وزارت لبنان مراراً.
- كين كيلوغ وهو جنرال متقاعد عمل في ادارة جورج بوش الابن وخدم في العراق وهو يعمل الآن مستشاراً للامن القومي لنائب الرئيس مايكل بنس.
- برايان هوك وهو المستشار السياسي لوزير الخارجية مايك بومبيو وعمل مبعوثاً خاصاً لبلاده مع ايران، وهو لا يستبعد اجراء محادثات مباشرة مع القادة الايرانيين شرط التزامهم تعديل سلوكهم.
وفي استنتاج أوّلي فإن المرشحين الثلاثة لديهم خبرة قوية في ملفات الشرق الاوسط، وتحديداً في الملف الايراني، ما يعني أنه اذا ما صحّت التسريبات وجرى اختيار واحد منهم فإنّ ترامب سيعطي الأولوية للملف الإيراني مراهناً على حصول فرق كبير يجعله قادراً على تسويقه في حملته الانتخابية.
واللافت الكلام الذي صرّح به بومبيو بعد اقل من ساعتين على إقالة بولتون، بأنّ ترامب قد يجتمع من دون حسن روحاني على هامش اجتماعات الامم المتحدة، ورداً على سؤال كرّر موقفه بأنّ ترامب مستعدّ للقاء من دون شروط مسبقة.
وهو ما يعني انّ ترامب سيرمي بكامل ثقله لإجراء الصفقة مع ايران. ففي آخر استطلاعات الرأي الاميركية سجلت شعبية ترامب تراجعاً من 44% في حزيران الماضي الى 38%.
كما تراجعت نسبة الذين يعتبرون انّ اقتصاد بلادهم جيد من 65% في العام الماضي الى 56%.
ولا شك في أنّ خبر إقالة بولتون كان خبراً سيّئاً جداً لرئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو. فهما دفعا دائماً باتجاه المواجهة مع ايران، وكان بولتون صديق نتنياهو الاول داخل الادارة الاميركية.
وهذا الخبر لم يكن وحده السيّئ على نتنياهو فهو يعيش اياماً صعبة قبل خمسة ايام على موعد فتح صناديق الاقتراع.
ففي آخر استطلاعات الرأي سُجّل تراجع «الليكود» الى المرتبة الثانية مع 31 مقعداً في مقابل 32 مقعداً لحزب «ازرق ابيض». وهذا الاستطلاع حصل قبل «الصورة المهينة» لنتنياهو في اشدود واضطراره الى قطع خطابه لدقائق والذهاب الى الملجأ بسبب الصواريخ التي أُطلقت عمداً من غزة.
واجمعت وسائل الاعلام الاسرائيلية على ان ما حصل سبّب ضرراً كبيراً لصورة نتنياهو. والأهم ان كبار قادة حزب «ازرق ابيض» باتوا يتحدثون علناً عن اتصالات مع كبار مسؤولي «الليكود» تتمحور على التفاهم بين الحزبين الكبيرين على حكومة مشتركة، ولكن من دون نتنياهو الذي عليه أن يواجه القضاء. حتى افيغدور ليبرمان يتحدث في الاتجاه نفسه.
نتنياهو قصد لندن بهدف لقاء وزير الدفاع الاميركي مارك إسبر وإطلاعه على معلومات حول مفاعل نووي ايراني بهدف عرقلة اية مفاوضات محتملة بين ترامب وروحاني.
ومع سقوط بولتون تضررت ورقة نتنياهو التي طالما تغنّى بها، والتي ترتكز على علاقاته الممتازة على الصعيد الدولي وتأثيره الكبير في هذا المجال.
وضع نتنياهو الصعب يدفع بالجميع للتروّي قبل جلاء نتيجة الانتخابات الاسرائيلية ومصير المفاوضات الاميركية - الايرانية ولقاء الرئيسين.
لذلك جاءت زيارة مساعد وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الاوسط ديفيد شينكر الى لبنان في اطار الاستطلاع والتعارف، وليس في اطار اطلاق المفاوضات حول ترسيم الحدود. فلا بد من انتظار النتائج الاسرائيلية ومصير الملف الاميركي - الايراني.
لكن اللافت انّ شينكر أصرّ على بدء جولته في المنطقة انطلاقاً من لبنان من بعد اسرائيل. وفي اشارته بذلك أن لبنان موجود بشكل اساسي على الاجندة الاميركية ربطاً بالتطورات الاسرائيلية والايرانية. وثانياً بدا شينكر هادئاً خلال محادثاته العديدة، وهو تعمّد على ما يبدو إعطاء صورة اكثر مرونة عن شخصيته بعدما سبقته اخبار كثيرة عن انحيازه لوجهة نظر اسرائيل استناداً الى سلوكه السابق.