قال أحد الباحثين، إبّان حرب الخليج الثانية، انّ التدخل الأميركي السريع لمساندة دولة الكويت ضد هجوم الرئيس صدام حسين سببه النفط الكويتي، واستطراداً الخليجي، قبل اي اعتبار آخر يتصل بالحرص الأميركي على السيادة الكويتية وتطبيق القرارات الدولية. وإذا ما أراد لبنان أن يحظى بتدخّل أميركي حاسم دعماً لسيادته واستقلاله، فعليه ان يفكِر ماذا يستطيع ان يقدّم لواشنطن وغيرها من عواصم القرار، وبما يوازي النفط الكويتي.
وما تقدّم لا يعني انّ المبادئ غير موجودة، ولكن المصلحة، للأسف، تتقدم على اي اعتبار آخر. والمصلحة تعني انّ على كل طرف ان يقدّم ما يُغري الطرف الآخر من أجل تحالف متوازن يتجاوز المشترك بينهما الذي يدخل في باب البديهيات. وبالتالين في حال غياب المصلحة المتبادلة تصبح العلاقة غير متوازنة، وتتحوّل إلى قاطرة ومقطورة.
من هذا المنطلق لا يمكن الكلام عن تحالفات ثابتة ومتوازنة وحتى تفاهمات او تقاطعات على القطعة، في حال لم تكن هناك مصلحة مشتركة بالتحالف.
فالعماد ميشال عون مثلاً، وعلى رغم خلافه التاريخي والمحكم مع الدكتور سمير جعجع، لم يتردد في توقيع تفاهم مع «القوات اللبنانية» وزيارة معراب لإعلان ترشيحه من قبل «القوات»، طالما انّ خطوة من هذا النوع تعزّز حظوظه الرئاسية وتقرِّب مسافة وصوله إلى بعبدا.
وعلى رغم الانقسام العمودي الذي طبع الحياة السياسية بين عامي 2006 و2014 بين فريقي 8 و14 آذار، وكانت حاجة كل فريق عضوية إلى توسيع مساحة التفاهمات بين المكونات التي تدور في فلك واحد، إلّا انّ العلاقات داخل كل فريق لم تكن سوية بالشكل المطلوب، بسبب سَعي بعض القوى من هنا وهناك، إلى تضخيم حجمها ودورها.
وقد عانت «القوات اللبنانية» تاريخياً في علاقاتها السياسية بسبب التزامها الاعتبارات المبدئية ورفضها منطق المساومات، فكانت تصطدم دوماً بالقوى وحتى الحليفة معها، التي تعتمد سياسة مصلحية - براغماتية، أولويتها ممارسة السياسة للسياسة بعيداً عن الخط التحالفي الذي يخدم المصلحة اللبنانية العليا.
في موازاة الخلل الذي أصاب علاقة «القوات» مع العهد بسبب التراجع عن اتفاق معراب بشقّيه الوطني - المبدئي والشراكة - السلطوي، فإنّ العلاقة بين «القوات» و«المستقبل» حافظت على متانة معينة بسبب الرابط الاستراتيجي بينهما، ولكنها شهدت في 3 محطات تباينات مهمة، بسبب عدم أخذ الفريق الثاني بوجهة نظر الفريق الأول حول 3 مسائل كيانية:
- المسألة الأولى، تتعلق بقانون الانتخاب وأهميته الميثاقية بغية تصحيح الخلل الذي اعترى التنفيذ السيئ لاتفاق الطائف من قبل النظام السوري، بهدف تَهميش المكوِّن المسيحي السيادي على خلفية انتقامية من جهة، ولضمان وصاية هادئة وطويلة من جهة أخرى.
وفي موازاة ضرورة تصحيح الخلل المطلوب ميثاقياً، فإنّ استعادة المكون المسيحي السيادي حيثيته وقوته وقدرته تصبّ في مصلحة المشروع السيادي ومشروع قيام الدولة في لبنان.
والمؤسف انّ هذا الأمر، الذي كان يفترض ان يتحقق قبل انتخابات العام 2009 ومن داخل 14 آذار وبالتكافل والتضامن مع جميع مكوناتها، لم يتحقق فعلياً إلا عن طريق التقاطع بين الرئيس ميشال عون والدكتور سمير جعجع.
- المسألة الثانية، تتصل بالانتخابات الرئاسية المؤلفة من 3 طبقات: الأولى مسيحية، والثانية وطنية، والثالثة خارجية. وكان يفترض بحليف «القوات» المسلم أن يقف الى جانبها في هذا الخيار إلى النهاية، باعتبار انّ الاستحقاق مسيحي الطابع، وذلك على غرار ما فعل «حزب الله» مع عون، بمعنى انّ الحليف المسلم لكلّ طرف عليه ان يقوّي ورقة حليفه المسيحي، وما ينطبق على مستوى رئاسة الجمهورية ينسحب على رئاسة الحكومة، إذ لا يمكن لـ«القوات» مثلاً ان تؤيّد تكليفاً غير الرئيس الحريري أو ضده. وبالتالي، لو نَسّق الحريري خطواته مع جعجع ولم يتفرّد بترشيح عون في مرحلة، وقبله ترشيح النائب السابق سليمان فرنجية، لَما وصل عون إلى بعبدا.
- المسألة الثالثة، تتعلق بممارسة الشأن العام وترتبط في ذهن «القوات» بلبنان المزرعة الذي تحدّث عنه الرئيس بشير الجميل، إذ من أسباب غياب الشعور بالانتماء الوطني عدم وجود دولة تفرض هيبتها وتعطي كل مواطن حقه ربطاً بكفاءته، والمواجهة الإصلاحية تشكل جزءاً لا يتجزأ من المواجهة السيادية، ومن هنا ضرورة القطع مع ممارسات سابقة فرضها النظام السوري والدفع باتجاه سياسات تعيد توحيد اللبنانيين وتوسيع العناصر المشتركة بينهم.
وفي موازاة العلاقة بين «القوات» و«المستقبل»، حافظت العلاقة بين «القوات» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» على ثبات سياسي وانتخابي، ولم تشهد طلعات (غَرام) ولا نزلات (اشتباك)، بل شكّلت نموذجاً للعلاقات المستقرة.
وقد أظهرت كل الحملات التي شنّها الوزير جبران باسيل، من دون وجه حقّ على «المستقبل» و«الاشتراكي»، انّ سببها الرئيس علاقتهما مع «القوات» لا شيء آخر يرتبط بصلاحيات رئيس الحكومة و«داعشية» السنّة، ولا بأجراس الكنائس المخبّأة في المختارة.
وقوة أي فريق سياسي لا تبدأ من تحالفاته التي هي مكمِّل لوضعيته وتشكل ضرورة لتحقيق مشروعه الذي لا يمكن أن يحققه منفرداً، بل قوته تبدأ من نفسه، أي من قوته الذاتية الحزبية والشعبية والسياسية والوطنية.
وأيّ قوة من هذا النوع تفرض نفسها وإيقاعها وتمنع على أيّ كان تجاوزها، كما تفرض على الآخرين التقاطع معها انطلاقاً من مقولة ونستون تشرشل الشهيرة انه «في السياسة ليس هناك من عدو دائم او صديق دائم، هناك مصالح دائمة».
وهذه المصالح بالذات، والمقصود بالمعنى الوطني والسياسي لا التجاري، ستفرض على الخصم والصديق التعاطي مع أيّ فريق قوي بامتداداته الشعبية وتمثيله النيابي والوزاري.
فالحل الأوحد أمام «القوات»، وهي تقوم بذلك أساساً، يكمن في تعديل مقولة الفيلسوف الفرنسي ديكارت وتَسييسها من «أنا أفكِّر إذاً أنا موجود»، إلى «أنا قوي إذاً أنا موجود»، فقوتها تبدأ من ذاتها، وتحالفاتها ستكون النتيجة او الترجمة العملية لقوتها.