بعد إعلان الولايات المتحدة الأيام القليلة الماضية عقوبات جديدة على إيران، يعن لنا أن نتساءل: هل سيذعن الملالي؟ بمعنى: هل سيتغير سلوك إيران في طريقها لمحاولة الوصول إلى صفقة جديدة مع الغرب، رغم كل المظاهر الخارجية التي تبدو وكأنها رافضة مرة وإلى الأبد الحديث عن تغيير الاتفاقية السابقة لعام 2015؟ أم أن طهران ستمضي سادرة في غيها، مهددة بالأسوأ الذي لم يأت بعد؟
الشاهد أن العقوبات الأميركية الأخيرة تأتي ضمن سلسلة من عقوبات أوجعت إيران قولاً وفعلاً. والناظر إلى الداخل الإيراني يمكن أن يدرك الأثر الكبير والسلبي الذي تركته على كافة مظاهر الحياة، وإن كان الشعب الإيراني حتى الساعة هو من يدفع أكثر، ثمن عناد قادته.
غير أن هذا لا ينفي أن القيادة الإيرانية التي تحاول الفكاك من مشهد الحصار الحالي، باتت تجد نفسها في مواجهة استحقاقات كارثية لأبجديات حملة الضغط الأقصى، لا سيما مع كشف الاستخبارات الأميركية لشبكة «الحرس الثوري» الإيراني التي تقوم بتهريب النفط الإيراني، وبيع ملايين البراميل لصالح النظام السوري. ووصل الأمر بإدارة الرئيس ترمب - كما أعلن برايان هوك المبعوث الأميركي الخاص إلى طهران - حد تخصيص جوائز مالية بملايين الدولارات لكل من يبلغ عن أنشطة «الحرس الثوري» الإيراني.
يمكن القطع بأن الضائقة سوف تشتد من حول الملالي في الداخل، وبالقدر نفسه سوف ينخفض الدعم الإيراني للوكلاء في الخارج، كما الحال مع «حزب الله» والحوثي وبقية الأطراف الميليشياوية، إلا أن النهاية ليست قريبة، فلا يزال لدى النظام الإيراني ما يكفيه بعض الوقت للتسويف والمماطلة، ويبدو أن هذا ما جعل روحاني يعلن مباشرة ومع مؤتمر برايان هوك، عن أن إيران سوف تنقل ردات فعلها إلى مستوى انتقامي أكبر، من خلال خفض الالتزام الخاص بأعداد أجهزة الطرد المركزي، ودرجة تخصيب اليورانيوم، وحيازة الماء الثقيل.
مباراة على رقعة شطرنج إدراكية. ينبغي لنا أن نقر بأن هذه هي حقيقة المشهد الإيراني. غير أن هناك بعض الملاحظات التي لا يمكن إغفالها، وفي المقدمة منها أن الداخل الإيراني لم يعد كما كان الحال من قبل على قلب رجل واحد، فهناك أصوات ترى حتمية فتح دروب ومسارات للحوار مع واشنطن، مهما قيل خلاف ذلك، وربما نفاجأ على هامش الجمعية العمومية للأمم المتحدة خلال الأسبوعين القادمين بلقاء أميركي إيراني، رغم الصياح العالي الذي تصدره إيران للعالم.
لكن أيضاً على مستوى آخر، هناك حالة من التوجس والاستعداد للخيار «شمشون»، من قبل «الحرس الثوري» والجناح الأكثر تطرفاً، والاستعداد لإشعال المنطقة برمتها حال أتت حملة الضغط الأقصى المرجو منها، وهي غالباً ستفعل ذلك، الأمر الذي تبدى جلياً من خلال تصريحات اللواء علي شادماني، نائب قائد مقر «خاتم الأنبياء»، في «الحرس الثوري»، والذي صرح بأن طهران أبلغت دول الجوار بأنها ستضرب أي موقع تتم مهاجمتها منه، مشيراً إلى أن «السفن التجارية وناقلات نفط الأعداء وأصدقائهم، ستكون تحت سيطرتنا في أي حرب، والقواعد العسكرية الأميركية بالمنطقة في مرمى نيران الإيرانيين».
والمؤكد أنه ليس المطلوب التعاطي مع تهديدات «الحرس الثوري» الموسوم بالإرهاب على أنها حقائق، فالجميع يعرف أن جلها تهديدات فارغة جوفاء لا صحة لها، إنما في كل الأحوال تعكس الصراع الداخلي في إيران التي يبدو أن روحها حائرة وقلقة ومضطربة في داخلها، وهذا هو الخطر الحقيقي المحدق بها، وما يمثله من إنذارات بالانهيار القادم من دون شك.
جزئية أخرى تتوجب الإشارة إليها، وتتصل بالموقف الأوروبي العجيب والغريب، بقيادة فرنسا التي تقاتل بشراسة - إن جاز القول - من أجل إنقاذ الاتفاق النووي، وكأنه يعنيها هي قبل أي أحد آخر، وبلغ بها المزاد من خمسة مليارات يورو إلى خمسة عشر ملياراً، في توجه يحتاج إلى رؤى وتحليلات عميقة لفهم أبعاده، وقراءة أخرى تالية.
القصد هنا هو أن روحاني الذي قبل العرض الفرنسي بداية، عاد ورفضه ثانية، ما يبين أن أزمة إيران ليست مع الأموال ولا الاقتصاد؛ بل هي إشكالية إرادة سياسية، وتوجه عسكري يتطلع للهيمنة والسيادة. وقد بدا واضحاً أنه بمجرد أن أشار الأوروبيون إلى ضرورة أن تعدل إيران وتبدل من برنامجها الصاروخي، حدث الرفض الإيراني من فوره، ما يعني أن كل ما تقدم هو إضاعة للوقت، لا سيما أن على القمة خامنئي الرجل الذي أشار مراراً وتكراراً إلى أن الأوروبيين لا يختلفون كثيراً في توجهاتهم عن الأميركيين، وأنهم جميعاً سوف يغدرون بإيران، ولهذا يرفض تجرع «كأس السم» كما فعل الخميني من قبله.
أدت العقوبات الاقتصادية الأميركية على إيران إلى نتائج مرحلية لا بأس بها، من عينة تخفيض الميزانية العسكرية الإيرانية منذ عام 2018، وتقليل المساعدات المالية لوكلائها. ومع حملة الضغط الأقصى سوف يزداد الوضع الإيراني سوءاً، غير أن النهاية ليست قريبة تجاه قوة متطرفة ودولة راعية للإرهاب ومخادعة، تتوق إلى القوة وفرض الخوف على الآخرين، ولهذا لا بد في نهاية المطاف للمجنون من مجنون آخر يوقفه، وإلا أضحت حارتنا المصابة بالنسيان في خطر، وعلى غير المصدق أن يعيد قراءة فصلي النازي والفاشي في أوروبا خلال النصف الأولى من القرن المنصرم.