انطلق مسار العملية الانتقالية في السودان مع الإعلان عن تأليف الحكومة الجديدة بعد مخاض لمدة تسعة أشهر منذ اندلاع الحراك الثوري الاستثنائي في ديسمبر الماضي. بالرغم من هول ما جرى في الثالث من يونيو الماضي أمام مقر القيادة العامة للجيش خلال فض الاعتصام، وبالرغم من شروخ تاريخية وجهوية واجتماعية وصعوبة بناء الثقة بين العسكر والمدنيين، وبالرغم من تدخلات خارجية تخريبية، فقد تمكنت أطراف الحوار السوداني من الإقلاع بالعملية الانتقالية لمدة 39 شهرا، ويعد هذا إنجازا بحد ذاته وسابقة في تاريخ البلاد. لكن ضخامة التحديات المطروحة أمام الفريق الانتقالي تمهيدا للوصول إلى حكم مدني تستدعي الحذر والمتابعة الحثيثة لتفادي العقبات المنتظرة وحماية الواقعية وروح التسوية التي ميزت انتفاضة شابات وشباب السودان.
عند الإعلان عن حكومته في الخامس من سبتمبر قال رئيسها عبدالله حمدوك “نبدأ اليوم مرحلة جديدة من تاريخنا”، وأكد أن “أهم أولويات الفترة الانتقالية إيقاف الحرب وبناء السلام”. ومع هذه الخطوة يتم استكمال مؤسسات الحكم الانتقالي وذلك بعد تشكيل مجلس سيادي إثر توقيع اتفاق تاريخي بين المجلس العسكري الانتقالي، وقادة الاحتجاجات في أغسطس. ومما لا شك فيه أنه إلى جانب بناء السلام والحفاظ على وحدة بلاد النيلين، يمثل النهوض باقتصاد السودان أحد أبرز تحديات الحكومة الجديدة.
بيد أن الأهم يبقى في حسن سير المؤسسات المؤقتة واحترام المواعيد المتفق عليها وتوطيد الثقة بين قيادة الجيش وقوى الحرية والتغيير الممثلة للحراك الشعبي. ومنذ أبريل الماضي تراوحت علاقات الطرفين بين التشكيك والإصرار على عدم الفشل، ولم يكن من السهولة إيجاد المخارج المشتركة حيث لعبت إثيوبيا والاتحاد الأفريقي دورا كبيرا في تقريب وجهات النظر وحظي ذلك بغطاء أميركي وأوروبي ومباركة من الدول العربية المعنية.
هذه الرعاية الخارجية لمسار التغيير التدريجي السوداني لا يمكنها أن تحل طويلا مكان إرساء منطق المؤسسات والإثبات للملأ أن خيبات التجارب السابقة من جعفر النميري إلى عمر حسن البشير لن تتكرر، وأن مثال المشير عبدالرحمن سوار الذهب يبقى الأصح للوصول إلى بر الأمان.
وكان من الواضح منذ البداية أن “الدولة العميقة” لن تخلي الساحة بسرعة ولن تدع ممثليها يتخلون عن الوزارات السيادية لكن الجنرال عبدالفتاح البرهان ورفاقه حرصوا على عدم القطيعة مع الشارع و”تبرؤوا” من عملية فض الاعتصام. وفي المقابل قطف السودانيون الثمار الإيجابية لنضالهم الدؤوب وصبرهم الاستراتيجي لأنهم حافظوا على سلمية حراكهم الثوري ولم يردوا على البطش (والقمع على مدى ثلاثة عقود) بالعنف الثوري ومنطق السلاح.
وبالفعل استخلصت شبيبة السودان دروس الحركات الاحتجاجية والانتفاضات السابقة، وأتاح لها الوعي المكتسب والقيادة الموحدة في مجتمع تعددي (بما فيها الحركات المسلحة المناهضة للنظام) وبلد مترامي الأطراف، عدم السقوط في فخ التشدد وتغليب الأيديولوجيات أو السماح لأطراف خارجية باللعب على وتر الانقسامات وفتح الطريق أمام الفوضى التدميرية.
ومن البديهي القول إن الحراك السوداني طليعة الموجة الثانية من الاحتجاجات العربية، تنبه لعوائق ومنزلقات الموجة الأولى خاصة لجهة إخراجها عن مسارها السلمي الطبيعي ومسعى مصادرتها من جهة تيار سياسي إسلاموي معين، أو لدخول التيارات الجهادية والإرهابية على الخط أو استخدام بلاد بعينها كمنصات في صراع المحاور الإقليمية و”اللعبة الكبرى” لتدعيم النفوذ الأجنبي أو المشاريع الإمبراطورية في الإقليم.
بالطبع لم تتم تلبية طلب المرأة بالمساواة في الحكومة الجديدة، لكن وجود أربع نساء في التشكيل الوزاري، وتولي السيدة أسماء عبدالله منصب وزارة الخارجية يعتبر نقلة نوعية على الطريق الصحيح. ولفت النظر وجود ملاحظات و”نقد ذاتي” من قبل فريق “الحرية والتغيير”، إذ اعتبر الناطق الرسمي باسم مجلس السيادة في السودان، محمد الفكي سليمان، (شخصية مدنية من الاتحاد المعارض المكون من تجمع المهنيين السودانيين وقوى الحرية والتغيير) أن “قوى الحرية والتغيير أخطأت بقبول مبدأ إبعاد الكوادر السياسية الحزبية من الاختيار لتولي الحقائب الوزارية للفترة الانتقالية، لأنه لا يمكن إدارة وزارة ذات مهام سياسية بغير السياسيين”. كما أشار إلى “ضعف الوثيقة الدستورية في الجانب الخاص بحكومات الولايات التي لم تشكل بعد”.
وهكذا توجد الكثير من الصعاب التي كانت تنتظرها القوى السودانية، ولذلك طالبت بمرحلة انتقالية طويلة من أجل أخذ الوقت للتخلص من نفوذ النظام السابق المتغلغل ضمن المؤسسات ولتذليل المشكلات المحتملة مع الفريق العسكري الذي يؤاخذ عليه الفريق المدني أنه “يحتكر المعلومات المتعلقة بالدولة”. ومن البديهي أن تبرز هذه الإشكالات لكن عدم حلها يمكن أن ينسف روح الشراكة. ومن المهم ترسيخ الثقافة الديمقراطية والاعتراف بالآخر من أجل تحصين التجربة السودانية الفريدة.
ومن الاختبارات الأخرى الملحة تشكيل مفوضية السلام من أجل التفاوض مع الحركات المسلحة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. ومن المؤشرات الإيجابية في هذا الصدد إعلان “الحركة الشعبية لتحرير السودان/ شمال”، بقيادة عبدالعزيز الحلو، عزمها على الدخول في مفاوضات مع الحكومة الانتقالية للوصول إلى “اتفاق عادل يخاطب جذور المشكلة، ويضع نهاية منطقية للحرب في البلاد”. واعتبر أن “التوقيع على الإعلان السياسي والدستوري، وتكوين هياكل السلطة، يمثلان خطوة مهمة ويمكن أن يقودا إلى السلام”.
وفي سياق التفاؤل هناك تعويل على رفع العقوبات الأميركية واستنهاض الاقتصاد في بلد غني بالموارد والكوادر البشرية. ودحضا للاتهامات بالمحاصصة والرغبة في البقاء في السلطة طمأن رئيس “المجلس السيادي”، عبدالفتاح البرهان، بأن “القوات المسلحة ستبتعد عن العمل السياسي، وستعمل على تعزيز قدراتها”. وحذر من “حملة تستهدف الجيش بغرض الفتنة، وكذلك من محاولة التفرقة بين القوات النظامية”، مستدركا أنه “من المستحيل الوقيعة بين مكونات المنظومة الأمنية بالبلاد”.
من خلال تصريحات المعارض السابق محمد الفكي سليمان والجنرال عبدالفتاح البرهان نستشف أن هذا النقاش داخل الدائرة العليا للحكم الانتقالي مفيد وحيوي، شرط عدم مسه أهم أولويات المرحلة الانتقالية وهي “إيقاف الحرب وبناء السلام المستدام”، و”الحرص على تحسين الوضع المعيشي وبناء اقتصاد يقوم على الإنتاج”.
ومن هنا يفرض الاستقرار السياسي والإصلاحات الاقتصادية نفسهما/ لأن الموقع الاستراتيجي للسودان كفيل بجذب دول العالم للاستثمار في مختلف قطاعاته الاقتصادية في بلد واعد فتح أمام الشباب العربي والأفريقي الأمل في التغيير وأكد أن لا مستحيل تحت الشمس.