نجح «حزب الله» في إسقاط قواعد الاشتباك وخطوط ربط النزاع التي رسمَت بدماء «شهداء انتفاضة الاستقلال» منذ عام 2005، مستغلاً الاعتداء الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية والإجماع اللبناني على رفض هذا الاعتداء، من أجل انتزاع غطاء رسمي لـ»مقاومته».
إنّ رفض أي اعتداء إسرائيلي على أي منطقة لبنانية أمر بديهي، والإجماع اللبناني على رفض هذه الاعتداءات هو من المسلمات الوطنية والسيادية غير القابلة للبحث، بل كان يجب أن يشكل الاعتداء على الضاحية مناسبة لمزيد من حضور الدولة في المواجهة مع إسرائيل، وليس العكس، كما حصل مع تخلّي الدولة عن قرار الحرب ومنح «حزب الله»، أو الإيحاء بمنحه الغطاء الرسمي للرد على الاعتداء وتجاوز الخطوط الحمر المرسومة منذ الانسحاب الإسرائيلي عام 2000.
وأن يعلن الرئيس سعد الحريري عدم سقوط القرار 1701 أمر جيد، ولكن السيد حسن نصرالله أعلن بالصوت والصورة انّ عملياته العسكرية لن تنحصر بمزارع شبعا، بل ستمتد على طول الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، كما أعطى نفسه حقّ الردّ على استهداف إسرائيل أحد مواقعه في سوريا. وبالتالي، على الحريري من موقعه كرئيس للحكومة أن يقدم على خطوة من 3: إمّا دعوة الحكومة الى اجتماع طارئ لتحديد الموقف المناسب، وإمّا الطلب من رئيس الجمهورية الدعوة العاجلة الى طاولة حوار تبحث في الاستراتيجية الدفاعية، وإمّا ان يعلن اختصاراً للوقت وبوضوح 3 لاءات: لا للردّ خارج مزارع شبعا كمنطقة مٌتنازع عليها ولا إثبات رسمي بعد للبنانيتها، لا للرد على استهداف «حزب الله» في سوريا إذ انّ لبنان غير معني بوجود الحزب في سوريا، والذي يشكّل أساساً مخالفة دستورية، بل وجب عودته الى لبنان غير المعني أيضاً بعقيدة الحزب التي لا تعترف بحدود الكيانات القائمة. لا للردّ بغطاء رسمي للحزب، وكأنّ الدولة في لبنان تحولت الى قوات «يونيفل» بين الحزب وإسرائيل.
وسبق أن أطلق نصرالله مواقف عدة لوّح فيها بالرد من لبنان على اي ضربة أميركية ضد إيران، الأمر الذي دفع برئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع إلى توجيه رسائل إلى رئيسي الجمهورية والحكومة طالباً منهما دعوة الأمين العام لـ»حزب الله» إلى الامتناع عن أي عمل من هذا النوع يُعرِّض استقرار لبنان للخطر وضرورة الالتزام الشديد بسياسة النأي بالنفس، فضلاً عن أن لا ناقة للبنان ولا جمل بالمواجهة الأميركية - الإيرانية.
فالسيّد نصرالله كان يستعد أساساً لإدخال لبنان في مواجهة دفاعاً عن المصالح الإيرانية، والاعتداء الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية جاءه «شَحمة على فطيرة» من أجل ان يَتنصّل من الضوابط الداخلية والأممية المفروضة عليه، ويتفلّت من القيود السياسية التي تكبّله في عملية استخدام سلاحه وتحويل لبنان ساحة من ساحات مواجهاته، تنفيذاً لأجندته الإقليمية المتصلة بمحور الممانعة.
فمواجهة «حزب الله» لإسرائيل ليست الهدف الأساسي، إنما هي مجرد وسيلة لاستخدام سلاحه في سياق المشروع الأكبر المُمانع. وقد نجح، ولو موقتاً، في انتزاع غطاء رسمي لردّه على إسرائيل، وكأنه المولَج بالدفاع عن السيادة اللبنانية، الأمر الذي يستدعي من رئيس الحكومة أن يعلن، في إطار مؤتمر صحافي أو في اجتماع الحكومة أو بدعوة عاجلة الى طاولة الحوار او بدعوة استثنائية لقوى 14 آذار، الآتي:
أولاً، العودة إلى قواعد الاشتباك المعمول بها منذ صدور القرار 1701، وبالتالي تحذير «حزب الله» من مغبّة استخدام سلاحه تحت اي عنوان او ذريعة خارج إطار مزارع شبعا حصراً، في انتظار ان تحسم طاولة الحوار كيفية استرداد شبعا وطريقة الردّ على الاعتداءات الإسرائيلية.
ثانياً، توجيه رسالة واضحة المعالم للحزب بأنّ أي خروج عن قواعد الاشتباك المعمول بها منذ عام 2006 تعني العودة إلى الانقسام العمودي المحلي وتعطّل الأطر الدستورية والاستقرار السياسي، وبما أنّ البلاد على حافة الكارثة الاقتصادية، فيجب تحميله مسؤولية دفع البلاد نحو الهاوية.
ثالثاً، مسؤولية الدفاع عن لبنان ليست مسؤولية فئة او حزب، بل هي مسؤولية جميع اللبنانيين، وبالتالي لا يحق لـ»حزب الله» التفرُّد بقرار من هذا النوع.
رابعاً، «الاستفادة» من الاعتداء الإسرائيلي من أجل وضع بند الاستراتيجية الدفاعية بنداً أوّل على جدول أعمال الحوار الوطني، لأنه من غير المسموح ولا المقبول إبقاء لبنان ساحة لنزاعات الآخرين وصراعاتهم، وجرّه إلى حرب ستؤدي هذه المرة إلى سقوطه في الهاوية، و»حزب الله» أكثر مَن يُدرك حقيقة الوضع الاقتصادي ودقته، ولكنه على استعداد للقيام بأي شيء تنفيذاً لأجندته الإقليمية باعتباره يعمل تحت شعار «لا صوت يعلو على صوت المعركة».
خامساً، أن تبحث طاولة الحوار صراحة كيفية مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية على السيادة اللبنانية، ووضع خطة عملية ديبلوماسية وغير ديبلوماسية تتولاها الدولة اللبنانية حصراً.
سادساً، الإعلان بشكل صريح وواضح التمسّك باتفاق الطائف والقرارات الدولية، وهذا التمسّك يجب ان يكون فعلياً لا شكلياً، والتأكيد أنّ الدولة اللبنانية لا تغطي اي خطوة يمكن ان يُقدم عليها «حزب الله» في سياق أجندته الإقليمية، كما التأكيد ان لا أولوية تعلو على الأولوية اللبنانية.
فما حصل في الأيام التي تلت الاعتداء الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية خطير للغاية، والرَد على السيّد نصرالله بكسره الخطوط الحمر وكلامه على «مرحلة جديدة بدأت في 1 أيلول بالرد من أرض لبنانية محتلة داخل مزارع شبعا إلى أرض فلسطينية محتلة من خلال حدود عام 1948»، لا يكون فقط من خلال التأكيد الشفهي بالتزام القرار 1701، بل بالتلويح صراحة بإنهاء «المساكنة» القائمة، فإمّا العودة إلى قواعد أو خطوط ربط النزاع أو إنهاء «المساكنة». ومسؤولية إنقاذ لبنان هي مسؤولية جميع اللبنانيين، والدولة لا تؤجِّر قراراتها السيادية ولا تلزّمها لأحد، بل هي ملك حصري لها وحدها.