للوهلة الأولى، فكَّر البعض في أنّ الحريري زَلَّ به اللسان عندما تحدّث عن «حزب الله» أو أنه لم يوفَّق في انتقاء عباراته، بالانكليزية، لتعبِّر بدقّة عمّا اعتاد قولَه بالعربية. لكنّ سياق المقابلة أثبتَ أنّ رئيس الحكومة كان يعني تماماً ما يقول:
«حزب الله» مشكلة محلية وإقليمية تحتاج إلى علاج. أنا شخص براغماتي وأعرف حدودي. لا أوافق على تصرفاته، ولكننا عاجزون عن كبح جماحه، ولا نتحمّل المسؤولية عن هجماته الأخيرة على إسرائيل. ولا أتعاطف مع أي مؤسسة مالية لبنانية تخالف العقوبات الأميركية عليه».
الواضح إذاً، أنّ الحريري أراد من مقابلته مع شبكةٍ تلفزيونية أميركية واسعة النطاق تأكيد ما تعهّد به في زيارته الأخيرة لواشنطن، أمام مسؤولي الخارجية والأمن القومي، وعلى رأسهم وزير الخارجية مايك بومبيو: الحكومة اللبنانية ستمضي في سياسة فكّ الارتباط بينها وبين «حزب الله»، وستبذل كل جهدٍ للحؤول دون سيطرته على القرار الرسمي، وإبقائه ضمن حجمه الطبيعي كممثل لشريحة سياسية ومذهبية لبنانية.
يريد الحريري إزالة أي التباس ربما وقعت فيه الإدارة الأميركية تجاه لبنان الرسمي، نتيجة الإجماع اللبناني على التضامن مع «حزب الله» بعد الضربة الأخيرة في الضاحية الجنوبية وعمليته العسكرية التي استهدفت الداخل الإسرائيلي. وهذا الأمر يرتدي أهمية خاصة عشيّة وصول مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد شينكر الى بيروت، ليدير الوساطة حول المفاوضات الحدودية مع إسرائيل.
وثمة مَن يعتقد أنّ شينكر سيكون أكثر حزماً من سلفه ديفيد ساترفيلد في الإلحاح على تسريع الوتيرة والوصول بالمفاوضات إلى نتيجة. فالسفير ساترفيلد كان «مُلَبْنناً» ويعرف لبنان وسياسييه جيداً، ومعتاداً التعامل معهم، ويدرك هوامش حركتهم في مسائل من هذا النوع. لذلك، جاءت رسالة الحريري بمثابة تطمين للموفد الجديد.
ولكن، ما سرّ الهدوء التام الذي التزمه «حزب الله» تجاه مواقف الحريري، خلافاً لما يجري غالباً؟
المتابعون يقولون: يجدر التذكير أولاً بأنّ «الحزب» لم يفتح النار على الحريري عندما حوَّل زيارته الأخيرة لواشنطن من رحلة عائلية إلى زيارة عملٍ من الدرجة الأولى، واحتفى خلالها بـ»صقر» الإدارة بومبيو في مزرعته الخاصة قرب واشنطن.
فـ»الحزب» مطمئنّ عموماً إلى أنّ رئيس الحكومة لن يطعنه في الظهر، وليس في مقدوره أن يفعل ذلك ما دام مكبلاً بتسوية 2016 المعروفة. لكنه اكتفى ببضعة تحذيرات للأميركيين وليس للحريري: لا تسترسلوا في الكلام على تطوير القرار 1701 من أجل تطويقنا، ولا في التعويل على المفاوضات الحدودية للوصول إلى ترتيبات سياسية.
وفي أي حال، عندما عاد الحريري إلى بيروت، وضع رئيس الجمهورية ميشال عون و»الحزب» تماماً في صورة ما فعله في واشنطن، لئلّا تكون هناك ظنون حول الزيارة في ذهن أحد. وكان «الحزب» في منتهى الارتياح إلى كون الحريري «مخلصاً» إلى هذا الحدّ لمقتضيات التسوية التي عاد بموجبها إلى السراي، والتي تقضي بأن يدافع عن «الحزب» لدى المرجعيات العربية والدولية، مقابل منحه هامشاً واسعاً من السلطة و»الامتيازات» في الداخل.
ولاحقاً، في عملية الضاحية وما تلاها، أثبت الحريري هذه المقولة. فقد أعلن التضامن التام مع «الحزب» في مواجهة إسرائيل، كما الرئيس عون، ولم يستثِر أي إشكال في ما يتعلق بترسانة «الحزب»، أو بإمكان توريطه للبنان في حرب مدمِّرة، أو بفتح النقاش حول الاستراتيجية الدفاعية. وهذا الأمر أراح «الحزب»، لكنه أفسح في المجال لتساؤلات أميركية عن مدى التزام الحريري المواقف التي أطلقها في واشنطن.
يقول أحد السياسيين المخضرمين: يمضي الحريري في لعبة التوازنات، وكأنه يقود دراجة في طريق صاعد ومتعرج ومليء بالحفر والمطبّات. فهو يحتاج إلى جهد استثنائي وإعادة تصحيح للتوازن في كل دقيقة، لئلّا يقع. فما أن يميل بالدفّة نحو واشنطن والسعودية حتى يصحّح التوازن مع «حزب الله» وإيران وروسيا. والعكس صحيح… لعل العاصفة تمرّ وينقشع الجوّ.
فقد أطلق الحريري سهامه نحو «الحزب» في المقابلة الأخيرة. وبدا كأنها رسائل للمشاهد الأميركي لا للداخل اللبناني. لذلك، أراد «حزب الله» تمرير هذه المواقف من أمامه بهدوء... وبعد ساعات سينساها الجميع. وإذا كان الأمر يساعد الحريري على تدعيم موقعه كوسيط - لمصلحة «الحزب»- فهذا الأمر مدعاة ترحيب لا انتقاد.
في العمق، ليس الموقف المعلن في جريدة أو تغريدة أو محطة تلفزيونية هو الذي يعوِّل عليه «الحزب»، بل السلوك السياسي. والدليل الأكبر هو رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط.
فالحملة على جنبلاط وصلت إلى حدّ التلويح بإقصائه عن المعادلة، ليس لمجرد إطلاقه المواقف النارية حول مزارع شبعا، بل لأنه ظهر كرأس حربة في المحاولة الأميركية لاستنهاض القوى المناهضة لـ«الحزب». وإلى حدّ ما، هذا الأمر يعني رئيس «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع. وأما الحريري فلا خوف منه ولا عليه. ماشي في التسوية و«زيّ ما هيي».