أثيرت في السنوات السابقة وفي إطار الصراع ضد إسرائيل، مصطلحات مثل “قواعد الاشتباك”، أو “توازن الرعب”، أو “الردع المتبادل”، والقصد هنا أن الأطراف المعنية، وهي حزب الله في لبنان وحركتا حماس والجهاد الإسلامي في غزة، استطاعت أن تصل إلى مستوى مكافئ، ولو نسبياً، لإسرائيل، ما يمكنها من فرض شروطها عليها، ويجعلها تفكّر مليا قبل القيام بأي هجمة على قواعد حزب الله أو المقاومة في غزة.
وفي الحقيقة فإن طرح هذه المصطلحات وتسويقها، ينم عن تسرّع ومبالغة وسذاجة بكل المقاييس، كما ينم عن روح رغبوية، لا صلة لها بالواقع ولا بالإمكانيات الحقيقية، ناهيك عن أن طرحها هو للاستهلاك ونيل الشرعية والتغطية على الأثمان الفادحة التي تُدفع في الصراع مع إسرائيل دون التمكن من استثمار التضحيات المبذولة.
وكنا تعودنا في الخطابات السياسية العربية على المواربة والتلاعب وإثارة العواطف، وضمن ذلك المصطلحات المراوغة، كمصطلح “التوازن الاستراتيجي”، الذي صكّه حافظ الأسد بعد حرب أكتوبر 1973، التي غدت آخر الحروب العربية مع إسرائيل، علما أنه ضيّع الجولان عام 1967، وأضحى بعدها رئيسا لسوريا لثلاثة عقود، وأورثها لابنه من بعده منذ عقدين، في وقت عرّفت فيه إسرائيل حدودها مع سوريا باعتبارها أهدأ حدود لها مع أية دولة عربية أخرى، وقد تبين بعدها أن ذلك التوازن الاستراتيجي يعد للحفاظ على النظام فقط، ووأد أي تحرك شعبي للتغيير السياسي استجابة لتوق السوريين إلى الحرية والكرامة والديمقراطية.
وإذا تفحصنا المصطلحات المذكورة بصورة موضوعية وعقلانية، بعيدا عن الروح العاطفية والرغبوية والدعائية، فسنجد أنه لا يوجد أي تناسب بين قدرات القوى المذكورة وإسرائيل، على صعيد التسلح والإدارة والتخطيط والإمكانيات التكنولوجية والاقتصادية والدعم الخارجي وتماسك المجتمع، هذا أولا.
ثانياً، في الوقت الذي يجري فيه الحديث على هذا النحو، سنجد أن أوضاع المشرق العربي، لاسيما العراق وسوريا، في حال مريع من الانهيار وتصدع الدولة والمجتمع، وفي هذه الحال يبدو الحديث عن مواجهة إسرائيل ضربا من الادعاء أو الزيف أو الخيال المرضي، وكأن ميليشيات مثل حزب الله وفاطميون وزينبيون وعصائب أهل الحق وكتائب أبوالفضل العباس وبقية ما يسمى الحشد الشعبي هي بديل عن شعبي العراق وسوريا.
ثالثا، للأسف لا يوجد في الواقع من استطاع استثمار التضحيات المقدمة في إطار مصارعة إسرائيل، إذ أن حزب الله، مثلا، بعد الانسحاب الأحادي من جنوبي لبنان عام 2000 استدار 180 درجة وغرق في الصراع في الداخل اللبناني لفرض هيمنته، ولم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل، من يومها. باستثناء لحظة خطف جنديين إسرائيليين في يوليو 2006، والتي أدت إلى هجمة إسرائيلية مدمرة على لبنان، اضطرت حسن نصرالله إلى الاعتذار للشعب اللبناني باعتبار أنه لو كان يعرف أن ردة الفعل الإسرائيلية ستكون بتلك الدرجة لما تمت العملية المذكورة، علما أن تلك العملية أتت للتغطية حينها على اغتيال رفيق الحريري وعلى خروج الجيش السوري من لبنان. أيضا، في غزة، لم تنجح حركة حماس، رغم عدة حروب إسرائيلية، في فرض شروطها على إسرائيل، ولا حتى في فتح معبر رفح أو في تخفيف الحصار.
رابعا، تبدو قصة “توازن الرعب”، أو “الردع المتبادل” أو “قواعد الاشتباك” مجرد أسماء حركية لمصطلح “قواعد التعايش أو التكيف”، حيث أن إسرائيل تتعايش أو تتكيف مع وجود قوى مسلحة، تنشغل بالصراعات الأهلية أو الداخلية ما شاءت طالما لا تمس بأمن إسرائيل، في حين تتكيف تلك القوى مع وجود إسرائيل بحيث تتمكن من فرض هيمنتها في مجتمعاتها، وتعزيز أوراقها في الصراعات الداخلية.
خامساً، شهدنا أن حزب الله، كما حصل في مواجهات الأحد الماضي، التزم قمة العقلانية والانضباط في الرد على الاعتداء الإسرائيلي على معاقله في بيروت، في حين أنه شديد الانفلات والوحشية في هجمته على السوريين.
والأهم، نلاحظ أن رد حزب الله أتى متأخرا جدا إذ أن إسرائيل قامت بشن حوالي مئتي غارة جوية وصاروخية على قوافل حزب الله ومستودعاته في سوريا، بل إنها مؤخرا وسعت هجماتها إلى العراق ضد قواعد ومستودعات الحشد الشعبي، أي أنها باتت تشتغل على ثلاث جبهات (سوريا والعراق ولبنان)، في حين أنها لم تواجه بأي رد لا من إيران ولا من حزب الله، إلا مؤخرا، فقط بسبب التصعيد الأميركي والإسرائيلي ضد إيران، وهذه هي القطبة المخفية التي تفسر رد حزب الله، على ضعفه، كما جرى مؤخرا، مع كل الحديث عن تدخل أطراف عديدة مع إسرائيل لاستيعاب ضربة حزب الله، التي لن تكون قوية، وأن الطرفين غير معنيين بتصعيد الأمر إلى حد مواجهة عسكرية كبيرة، على غرار عام 2006، التي ذهب ضحيتها 1200 من اللبنانيين، وخراب مناطق كثيرة من لبنان، ناهيك عن دمار بنيته التحتية، بحيث بتنا إزاء معادلة أن لبنان يضعف وحزب الله يقوى.