منذ أربعين سنة وهو عمر دولة الملالي في إيران والفجوة تتسع ما بين عالم شيعي، أرادت له إيران أن يحتل مجالا حيويا في السياسة، وعالم إسلامي هو خليط من التوجهات السياسية التي يغلب عليها السلوك المدني “العلماني” بما يضع الدين على الحياد من غير أن يخالفه.
غير أن ذلك الحياد لم يستمر. فالتشدد الذي طرحته إيران كتسوية في علاقتها بالآخرين استنهض نزعات طائفية كانت الأنظمة السياسية قد هزمتها في أوقات سابقة وجعلتها تبدو كما لو أنها جزء من فلكلور محلي. كانت محاكم التفتيش جاهزة لتتصدر المشهد.
لقد أخرت الحرب العراقيةــ الإيرانية ذلك التحول الرث ثماني سنوات. وهو ما عوضته إيران من خلال استثمارها في الغزو الأميركي للعراق، بحيث كانت سندا للشيطان الأكبر في احتلال العراق.
يومها تخلص الإيرانيون من عدوهم التاريخي صدام حسين وصار الأميركان وهم أعداؤهم في حاجة إليهم. وهو ما أطلق يدهم في المنطقة، من غير أن ينتبه أحد في المنطقة إلى خطرهم. وهو أمر غريب فعلا.
حين اتخذ الإيرانيون من مهمة الوصاية على شيعة العالم العربي مبدأ لهم فإنهم كانوا قد أعلنوا الحرب على دول، تتميز بتنوع المذاهب الدينية التي يتبعها مواطنوها ومنهم الشيعة.
ما فعلته إيران يقع خارج القانون الدولي وهي على العموم لا تؤمن بذلك القانون إلا في ما يتعلق بمصالحها. تلك حرب كانت قائمة على جميع المستويات، غير أن الكثيرين غضوا الطرف عنها أملا في أن يستحضر الإيرانيون مشاهد حرب الثماني السنوات التي أزهقت أرواح مئات الآلاف من شبابهم ولم يخرجوا منها منتصرين.
غير أن ذلك الأمل سرعان ما تبخر حين اصطدم بصخرة صماء هي عبارة عن مجموعة من المقولات العقائدية “الثورية” المتطرفة التي تسعى إلى إعادة العالم إلى زمن الحروب الدينية.
كان المسعى الإيراني ولا يزال يقوم على عزل شيعة العالم العربي عن محيطهم الوطني اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، بحيث يحل الولاء المذهبي لديهم محل الانتماء الوطني. وهي لعبة كان القصد منها تحويل الشيعة إلى طابور خامس يعمل لصالح إيران باعتبارها راعية للمذهب ووصية عليه.
في المقابل فقد سعت إيران سرا إلى تمتين صلتها بجماعة الإخوان المسلمين التي تعتبرها المعادل “السني” في الميزان الطائفي الذي صار بالنسبة لها بمثابة الأساس الذي تبنته في نظرتها إلى المعادلات السياسية الإقليمية.
لم تكتف إيران بالتبشير بأفكارها الطائفية بل نجحت في تأسيس منظمات وجماعات وأحزاب مسلحة تابعة لها نشرتها في عدد من الدول العربية وهو ما دفعها إلى التفاخر بأذرعها التي تهيمن على مقدرات تلك الدول. ولم يقع ذلك النجاح إلا لسببين. الأول يكمن في حسن النية شكلت أساسا للتعامل السياسي العربي مع إيران والثاني تجسده حالة الفوضى التي عاشها العالم العربي ابتداء من الغزو العراقي للكويت وانتهاء بـ”ثورات الربيع العربي” مرورا بالاحتلال الأميركي للعراق.
وكما يبدو فإن الإيرانيين وبعد أن فشلوا في جر العالم العربي إلى أن يكون طرفا في شقاق شيعي ــ سني قد اضطروا أن ينزعوا أقنعتهم ليعلنوا عن الهدف السياسي لمشروعهم الذي يقوم على فكرة الهيمنة على الجناح الشرقي من العالم العربي وتحويله إلى رهينة مستباحة في حالة قيام أي حرب محتملة ضدهم. لقد انتهى مبدأ الوصاية على شيعة العالم العربي إلى أن تتحول فئات من العرب إلى جيوش من المرتزقة لدى الولي الفقيه. هذا هو حال حزب الله اللبناني والحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن.
لم تعد فكرة مظلومية الشيعة قائمة في الطرح السياسي الإيراني فقد استبدلها النظام الإيراني بحقه في إلحاق جزء من العالم العربي به.
كانت المملكة العربية السعودية قد حذرت من ذلك التحول في وقت مبكر حين اعترضت على توقيع الاتفاق النووي مع إيران. وهو الخطأ الذي استدركته الولايات المتحدة لاحقا حين انسحبت من ذلك الاتفاق.
لقد أفسد الأميركان الحلم الإيراني بواقع العقوبات الذي هو العلاج الحقيقي لكل مشكلات المنطقة التي بدأت منذ أربعين سنة. فمن غير تحجيم إيران وإعادتها إلى حدودها الطبيعية ولجم سياستها فإن الشرق الأوسط سيكون ساحة لحروب لا تنتهي.