بين الطائرةِ المسيَّرةِ والصاروخِ الموجَّه تَعادل حزبُ الله وإسرائيل. عَداءٌ ميثاقيّ. لكنَّ لبنانَ هو المغلوب، فأرضُه المسرحُ وشعبُه الضحيّةُ ودولتُه سجينةٌ بالتواطؤِ مع سَجَّانِها. إخراجُ الردّين كان ناجحًا: حزبُ الله يصيبُ ملّالةً خاليةً من الجنودِ في أڤيڤيم (كانت لبنانيّةً حتّى 1923 واسمُها الأصليّ «صَلحا»)، فتَردُّ إسرائيلُ وتَقصِف بُقعةً خاليةً من السكَانِ في مارون الراس اللبنانيّة. حديدٌ بتُراب. لكن، إذا أَجْرينا حِسابًا بسيطًا، بالقلمِ والورَقة، نَكتشف أنَّ حزبَ الله مكسورٌ بعدُ على ردَّين: ردٌّ على عمليّةِ ضاحيةِ بيروت الجنوبيّة، إذ إنَّ عملية أڤيڤيم جاءت ردًّا على عمليّةِ إسرائيل على ضاحيةِ دمشق الجنوبيّة (عَقْرَبا)، وردٌّ على قصفِ أحراشِ مارون الراس. ألا نَنتقِمُ لمارون... والراس؟ إلا إذا الحزبُ تركها، حِشْمةً، للتّيارِ الوطنيِّ الحر.
عمليّا، انتهت الجولةُ الأولى التي هندَسها على الــ«سَنتيمتر» ثلاثةُ وسطاء أبرزُهم فرنسا مع إيران على أساسِ القواعد والمعطيات التالية: 1) العودةُ موقّتًا إلى قواعدِ الاشتباك. 2) تجميدُ نقلِ تقنيّاتِ الصواريخ إلى حزبِ الله. 3) إدارةُ التطوّراتِ العسكريّةِ في جَنوبِ لبنان على طريقةِ إدارتِـها بين إيران وأميركا في مياه الخليج، فيُعلَّقُ الِخيارُ بين مسارَي الحربِ والسلمِ بانتظارِ اللقاءِ المزمَع بين ترامب/روحاني. وأساسًا ما يجري في لبنان هو امتدادٌ لما يجري هناك، فقادةُ اللعبةِ هم أنفسُهم.
المؤسفُ لبنانيًّا أنه لم تَنفعْ جلسة ُمجلسِ الوزراء ولا اجتماعُ مجلسِ الدفاع الأعلى، لا استدعاءُ السفراء ولا سعيُ رئيسِ الجُمهوريّة إلى استعادةِ قرارِ الحرب. لم يَأبهْ حزبُ الله حتى لتضامنِ القوى السياسيّةِ اللبنانية معه، وأصرَّ على الردِّ لكي يؤكّدَ أنّه هو صاحبُ قرارِ الحربِ والسلمِ في لبنان والمحاوِرُ باسمِهِما.
انتفَت حاجةُ الدولةِ إلى وضعِ استراتيجيّةٍ دفاعيّة. وضعَها حزبُ الله وملخَّصُها: 1) حزبُ الله يَحتفِظُ بقرارِ الحربِ ضِدَّ إسرائيل على كاملِ الأراضي اللبنانيّة، وبقرارِ المشاركةِ في أيِّ حربٍ في بلدانِ المِنطقة. 2) لبنانُ جُزءٌ من «مِحورِ الممانعةِ»، وأحدُ مسارحِ المعركةِ الممتدَّةِ من اليمن إلى غزّة مرورًا بالعراق وسوريا. 3) الصراعُ مع إسرائيل مفتوحٌ عسكريًّا ولا سلامَ معها حتى لو صالحَها العربُ جميعًا. 4) سلاحُ حزبِ الله غيرُ قابلٍ للتفاوضِ ويَحِقُّ له تصنيعُ الصواريخ.
لسنا ضِدَّ وقوفِ الدولةِ إلى جانبِ حزبِ الله ضِدَّ إسرائيل، هذا أقلُّ الإيمانِ، لكنّنا ضِدَّ وقوفِها إلى جانبِ حزبِ الله ضِدَّ أمنِ لبنان. بصراحةٍ، إنَّ مشروعَ حزبِ الله في لبنانَ والمِنطقةِ يَتعارض، في نَظرِ ثُلثَي اللبنانيّين على الأقلّ، لا مع مصلحةِ لبنان الآنيّةِ فحَسْب، بل مع فكرةِ إنشاءِ دولةِ لبنان ومصيرِها. خلافُنا مع حزبِ الله ليس على إسرائيل، فهي عدوٌّ، بل على لبنان وأَصبح عدوَّ نفسِه؛ ولا على الردِّ المناسِبِ على إسرائيل، بل على قرارِ الردِّ ومرجِعيّتِه؛ ولا حولَ إيران، فهي دولةٌ صديقةٌ نَــجُــلُّها وصارت من أهلِ البيت، بل حولَ مفهومِها للبنان؛ ولا حولَ الدولةِ القويّة، بل حولَ الدولةِ المستقويةِ بسلاحٍ غيرِ سلاحِ الجيشِ اللبناني؛ ولا على التحرير، فهو مِلحُنا، بل على تحويلِ التحريرِ الـمُنْجَزِ ذريعةً للاحتفاظِ بالسلاحِ وتعريضِ لبنانَ لخطرِ اجتياحٍ إسرائيليٍّ جديد.
بصراحةٍ متناهيةٍ، لا نريدُ حروبًا زائدة. جميعُنا حاربْنا كفاية. أَتيْنا بالاحتلالِ وأَتينا بالتحرير. سَطَّرنا هزائمَ وسجَّلنا انتصارات. كانت لكلٍّ منا قضيّةٌ مختلفةٌ عن قضيّةِ الآخَر. وكان لكلٍّ منَا شهداءٌ غيرُ شهداءِ الآخَر. وَحَّدْنا شهداءَنا، وأتَت الساعةُ لنَصْهَرَ قضايانا في قضيّةٍ واحدةٍ هي لبنانُ دون سواه. ليس لبنانُ أرضًا تُؤجَّر حلبةَ مصارعةٍ حرّةٍ بين قوى المِنطقة، هو شعبٌ يريد أن يَعيشَ بأمنٍ وسلامٍ وحضارة. إذا كان البعضُ يولدُ والبندقيّةُ في يدِه، والبعضُ الآخَرُ يولدُ ومِلْعَقةُ الذهبِ في فمهِ، فنحن نولدُ والكلمةُ على ألسنتِنا والسلامُ على وجوهِنا والكتابُ في أَيادينا. وإذا بعدَ مئةِ سنةٍ لم نَتمكّنْ من توحيدِ مفهومِنا للبنان، فالعِلمُ الدستوريُّ واسعٌ ليُقدِّمَ لنا شكلًا آخَر للدولةِ في إطار وِحدةِ الكِيان. إذا كان التقسيمُ شرًّا، فالوِحدةُ التي تؤدّي إلى التقسيمِ شرٌّ آخَر، وتعالَوا نقاوِمْه. هذه هي المقاومةُ المفيدة.
حين فخامةُ رئيسِ الجُمهوريّة، بِنيّةِ احتواءِ الأحداثِ وحصرِ حقِّ الردِّ بالدولةِ، يُعلن أنَّ الاعتداءَ الإسرائيليَّ على الضاحيّةِ هو إعلانُ حربٍ على لبنان ويتيحُ حقَّ الردّ (26/08/19)، يتناسى أنَّ لبنانَ هو أصلًا في حالة حربٍ مع إسرائيل منذ نشوئها، وبخاصّةٍ بعد حربِ 2006. لكنَّ اعتبارَ اعتدائِها الأخير «إعلانَ حربٍ» جديدةٍ، هو، من جهةٍ، كلامٌ جَلَلٌ يُحمِّل الدولةَ اللبنانيّةَ مسؤوليّةَ الردِّ الحتميّ، ومن جهةٍ أخرى يُدخِل لبنان في منطقٍ لم يَألَفْه.
لكنَّ الغرابةَ أنْ يدعوَ مجلسُ الدفاعِ الأعلى (27/08/19) «المواطنين اللبنانيّين إلى الدفاعِ عن النفسِ بكلِّ الوسائلِ ضِدَّ أيِّ اعتداءٍ». إِذًا ما دورُ المؤسّساتِ العسكريّةِ الشرعيّةِ التي يَدفع المواطنون الضرائبَ لكي تدافعَ عنهم وتَقيهِم الحروب؟ وفي هذه الحال، ما جدوى انعقادِ اللقاءِ السياسيِّ أمس في قصرِ بعبدا لتغطيةِ التدابيرِ الاقتصاديّةِ والماليّةِ طالما أنَّ الحربَ أمامنَا والسلامَ وراءنا؟
في «ذكرى حربِ تموز»، توَجَّهتَ يا سماحةَ السيد حسن إلى بنيامين نتنياهو قائلًا: «لماذا تُورِّطُ الجيشَ الإسرائيليَّ في عمليّاتٍ عسكريّةٍ في لبنانَ وسوريا والعراق وتَجلُبُ نيرانَ حروبِ هذه البلدان إلى الشعبِ الإسرائيليّ؟» ألا يَجدُر بك يا سيّد حسن ألّا تتورّطَ أنت أيضًا في سوريا والعراق واليمن وتَجلُبَ نيرانَ حروبِ هذه البلدان إلى الشعبِ اللبنانيّ؟ وفي الذكرى ذاتِها أَعلنتَ «أنَّ هدفَ الحروبِ الأميركيّةِ في دولِ الشرقِ الأوسط هو تقسيمُها»، أفلا يَجدُر بحزبِ الله إذًا أن ينأى بنفسِه وبلبنان عن تلك الحروبِ الأميركيّة لكيلا يُعرِّضَ لبنانَ لخطرِ التقسيم؟