هناك توافق بين الفلسطينيين، من منهم في الضفة الغربية، ومن منهم في قطاع غزة، وأيضاً من منهم في الأرض المحتلة منذ عام 1948، وبين الإسرائيليين، على مختلف أحزابهم ومللهم ونحلهم، بأن الانتخابات الإسرائيلية، انتخابات الكنيست المقبلة، في 17 سبتمبر (أيلول) المقبل، ستكون «مفصلية»، وأن إسرائيل في ضوء نتائجها ستصبح على مفترق طرق، فإما الانخراط جدياً في عملية السلام، على أساس اتفاقيات أوسلو، وإما الاستمرار بركوب موجة الرئيس الأميركي دونالد ترمب و«التلطِّي» بما سمي «صفقة القرن».
حتى الآن فإن التقديرات المتداولة لدى الفلسطينيين، ولدى العرب المعنيّين، وأيضاً لدى الدوائر الأميركية والغربية، أن الفوز في هذه الانتخابات سيكون إلى جانب اليمين الإسرائيلي، بقيادة بنيامين نتنياهو، فالأحزاب الإسرائيلية الأخرى؛ «ميريتس» وحزب إسرائيل ديمقراطية و«المنشقون» عن حزب العمل، ضعيفة وغير متماسكة وغير قادرة على تشكيل «كتلة» لمواجهة اليمين الإسرائيلي، المستند إلى دونالد ترمب، و«صفقة القرن» التي من المعروف أنها قطعت شوطاً طويلاً على طريق التنفيذ على الصعيد الفلسطيني، وأخطر ما فيها اعتبار القدس الموحدة عاصمة «أبدية» لإسرائيل.
ولعل ما تجدر الإشارة إليه هنا أن هناك مراهنة على أن من يوصفون بأنهم «عرب 48» سيلعبون هذه المرة أيضاً الدور نفسه الذي لعبوه في انتخابات سابقة، ومكنوا رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين من تشكيل حكومة إسرائيلية بتوجهات «سلمية»، حيث توصلت مع منظمة التحرير إلى اتفاقيات «أوسلو»، وأصبحت هناك السلطة الوطنية، التي اعتبرت الخطوة الرئيسية لقيام دولة فلسطين المستقلة.
ويقيناً أنه كان بالإمكان أن يتحقق هذا الهدف منذ فترة سابقة بعيدة، تعود إلى بدايات تسعينات القرن الماضي، لو لم يتم اغتيال إسحق رابين على يد متطرف إسرائيلي خلال ترؤسه مهرجاناً احتفالياً بإنجاز عملية السلام مع الفلسطينيين، وحيث انتقلت الأمور الإسرائيلية بعد ذلك إلى أكثر الإسرائيليين تطرفاً، أولاً إلى أرئيل شارون، ثم بعد ذلك استجدت تحولات أساسية على هذا الصعيد، بعدما أصبح بنيامين نتنياهو رئيساً للوزراء في عام 1996، وبعدما هزم على يد إيهود باراك في عام 1999 ما لبث أن عاد إلى موقعه هذا منذ ذلك الحين حتى الآن.
والرهان هنا هو على أن عرب عام 1948، الذين لم يكن عددهم قبل نحو 70 عاماً يصل إلى نصف مليون، وأصبحوا يقتربون كثيراً من المليونين، سيلعبون ذلك الدور نفسه الذي لعبوه عام 1994 بتوفير ذلك التفوق العددي في الكنيست الإسرائيلي، ما مكن إسحق رابين من تشكيل الحكومة الإسرائيلية، التي توصلت مع منظمة التحرير إلى اتفاقيات أوسلو الشهيرة.
لقد تمكنت الأحزاب العربية، أحزاب «عرب 48»، بعد جهود، لا شك أن أهمها ما قام به الرئيس محمود عباس «أبو مازن» من ضغط معنوي على قادتها، من الانضواء في ائتلاف، شاركت فيه الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، بقيادة أيمن عودة، والحركة العربية للتغيير، بقيادة الدكتور أحمد الطيبي، والقائمة العربية الموحدة، بقيادة منصور عباس، والتجمع الوطني الديمقراطي، بقيادة جمال زحالقة، ويقيناً أن هذه خطوة، ما لم تحدث انتكاسة مفاجئة، ستكون في غاية الأهمية، وأنها ستلعب الدور نفسه الذي لعبته «القائمة العربية المشتركة» في الكنيست الإسرائيلي الأسبق في إيصال إسحق رابين إلى موقع رئيس الوزراء عام 1994.
والمستغرب فعلاً أن هناك من لا يزال يرى أنه لا ضرورة لأي مشاركة في أي انتخابات إسرائيلية، والبعض يرى أنها غير جائزة وأنها يجب أن تكون محرمة بالنسبة للشعب الفلسطيني، وحقيقة أن هذا يعتبر بمثابة «قصر نظر»، وقد ثبت أنه عندما اقترب عدد «عرب 48» من المليونين فإن دورهم بات فاعلاً في المجالات الإسرائيلية كلها، وعلى غرار ما كان حصل مع إسحق رابين الذي لو أن المتطرفين الإسرائيليين لم يتخلصوا منه في تلك اللحظة التاريخية المهمة لكان الواقع الفلسطيني ليس على ما هو عليه الآن، ولربما كانت الدولة الفلسطينية المنشودة قائمة الآن حقيقة فعلية.
وهنا، فإنه على هؤلاء «المتشائمين» أكثر من اللّزوم أن يدركوا أن شعوباً كثيرة قد مرّت بأسوأ مما يمرُّ به الأشقاء الفلسطينيون الآن، وحيث إن أوضاع العرب هي هذه الأوضاع المأساوية، وقد تمكّنت شعوب كثيرة من تحقيق ما تريده بالتقاط اللحظة التاريخية المناسبة، فهذا بالتأكيد ينطبق على الشعب الفلسطيني، لكن بشرط ألّا يستسلم إلى اليأس وأن يُدرك أن الإسرائيليين يعانون أيضاً. وأنْ يصبح إيهود باراك مع حلّ ِالدولتين، أي دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيلية، فإن هذا يعني أن بنيامين نتنياهو وباستناده إلى دعم دونالد ترمب سيصبح مجرد «نمر من ورق»، كما وصف ماو تسي تونغ أعداءه الأميركيين خلال حرب التحرير الصينية.
ربما بعض الأشقاء الفلسطينيين الذين توقفوا عند مفاهيم سنوات منتصف القرن الماضي وقبل ذلك، لم يدركوا أنّ الجنرال إسحق رابين، الذي كان قائد احتلال القدس في حرب عام 1967، والذي يقال إنه كان قد كرّر مقولة «ها قد عدنا يا أورشليم» وهو يرتقي أسوار المدينة المقدسة، قد انقلب على مفاهيمه السابقة كلها، وأنه قد قال بصوتٍ مرتفعٍ: «إنه لو اعترف بنا العالم بأسره فإنه لن يفيدنا تاريخياً ما لم يعترف بنا الشعب الفلسطيني». وهكذا فإنه قد بادر إلى تلك الانتقالة التاريخية، التي كان بالإمكان أن تؤدي إلى تحولات كثيرة لو لم يتم اغتياله وهو في ذروة نشوته باحتفال التوصل إلى اتفاقيات «أوسلو» مع منظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي مع الشعب الفلسطيني.
والغريب أنّ مثقفاً كبيراً مثل إدوارد سعيد كان قد اعتبر اتفاقيات أوسلو «خيانة وطنية» ارتكبها ياسر عرفات، وأنَّ آخرين من «الرافضين» العرب والفلسطينيين قد اعتبروها «خطيئة سياسية يدفع ثمنها الفلسطينيون» الآن، وكل هذا وهم قد رأوا كيف أن إسحق رابين قد دفع حياته برصاص المتطرفين الإسرائيليين، لأنه أبرم هذه الاتفاقيات.
إنه على هؤلاء، الذين لا شك في أن بعضهم أصحاب نوايا طيبة، أن يأخذوا بعين الاعتبار أنه لو لم يتم اغتيال رابين، ولاحقاً اغتيال عرفات، لربما كان هناك توجه جدي لإقامة هذه الدولة على حدود 4 يونيو (حزيران) 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
ثمّ إنه لا بد من القول إنه لولا «أوسلو» فلما عاد الفلسطينيّون بكل هذه الأعداد إلى وطنهم، ولما كان هناك اعترافٌ دوليٌ، شعبي ورسميٌ بهم وبأن الضفة الغربية ومعها قطاع غزة دولة فلسطينية تحت الاحتلال، ولكانت أبواب الهجرة قد أخذت كل من بقي منهم في وطنهم إلى أربعِ رياح الأرض، ولغاب الأمل نهائياً في تحقيق الدولة الفلسطينية المنشودة. وهكذا فإنه يجب الاستمرار بهذه «الاستراتيجية» الصحيحة والفاعلة، فالحفاظ على هذا التعاطف الدولي المؤثر، رغم مواقف ترمب البائسة، ضروري ولازم، ويجب الحرص عليه والتمسك به، وخاصة في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة والخطيرة.