نظام كالسائد في العراق، هل يوجد ما يكشف عن طبيعته أكثر من داعش؟ الأول إذا كان “مضبطة”، فداعش هو “ختمها”.
يُقدَّم القول “داعش يعود” وكأنه اكتشاف. داعش لم يغب أبدا. ولا تمّ دحره. وظلت ماكينة إنتاجه تدور دون انقطاع. ورغم انهيار “دولة الخلافة”، فإن أحدا لم يجرؤ على القول إن انتصارا قد تحقق ضد هذا التنظيم. ولا صدر إعلان بذلك. ولقد كان بوسع القادة الميدانيين أن يشموا رائحته، إن لم يروه، أو يتتبعوا خطواته.
ولئن أحيطت مناطق انتشاره بدمار شامل، فإن ذلك ما كان ليغير شيئا بالنسبة لتنظيم يشكل الخراب جزءا من استراتيجيته. ومثلما ظلت هناك ميليشيات تنتجها وتدعمها إيران، لتنتج فسادا وخرابا، فقد كان من الطبيعي أن تكون هناك ميليشيات لا تجد في الخراب عسرا أو تخشاه. وبينما ظلت “ماكينة الإنتاج” تعمل، فإن كل ما فعلته الملاحقات ضد التنظيم هو أنها دمّرت بعض “البضاعة” التي خرجت من طرف النهايات الأخرى.
“داعش” ابن الواقع الذي أنشأته طهران بالتحالف مع الولايات المتحدة عندما تم غزو العراق. لم يولد قيصريا، ولا جاءت ولادته متعسرة، وما كان إلا طفلا لسفاح بين نوعين من الغزاة، كان لكل منهما أغراضه وأحقاده ونواياه. فاجتمعت كلها على انحطاط في السياسة والثقافة والإدارة، لتنتج ما ينضح منها، بين الطوائف والأحزاب والميليشيات. داعش ابن بار لماكينة الإنتاج هذه.
ولد داعش من نظام قام على أساس التمييز الطائفي. فأوجد أرضية جديدة لأحقاد وكراهيات لم تألفها العلاقات الاجتماعية من قبل. وإذ أعلى طائفة فوق أخرى، وزودها بالمال والسلطة والسلاح، بصفتها الطائفية بالذات، فقد منح الدافع لكل طائفة أخرى أن تتزود بما تحتاجه للبقاء، بالصفة ذاتها.
ولد داعش من نظام قام على مستوى غير مسبوق من الفساد. فأنتج إمبراطوريات تنهب ليس الملايين ولا حتى المليارات، بل عشرات المليارات. وككل فساد آخر، فقد تم تهريب تلك الأموال إلى الخارج، فخرجت من دائرة الاقتصاد المحلي، حتى عجزت الحكومة عن توفير التمويلات لأبسط مقومات الحياة. ورغم أن الميزانيات المتعاقبة ظلت توفر مقدارا نظريا من الأموال، إلا أنها كانت تدخل في دائرة نهب وكأنها ثقب أسود يستطيع أن يمتص كل شيء، ومن جميع الاتجاهات، وبكل الأيدي التي تطال إليه سبيلا.
الطبيعة الميليشيوية للنظام الجديد كانت واحدة من أهم عناصر بقائه. لم تكن غايتها تقتصر على إضعاف الدولة، ولكنها امتدت لتفتيت المجتمع نفسه. حتى أصبحت نوعا من هوية جديدة. فما لم تكن عضوا في ميليشيا أو تحتمي بها، فلن تستطيع العيش بأمان. هذا الواقع أسقط “الوطن” كما أسقط “المواطنة” من العلاقة بين السلطة وأفراد المجتمع. وكان من الطبيعي لمن مزقتهم الولاءات الطائفية والعشائرية والفئوية والفقهية، أن يلتئموا حول ولاء ما، بصرف النظر عن مقدار انحطاط ثقافته أو غبائه. وفي واقع شرس فقد كان من الطبيعي للشراسة أن تنتهي إلى مجازر وأعمال وحشية، لها أول وليس لها آخر.
ولد داعش من الوحشية التي مارستها الأحزاب الطائفية التي تولت السلطة. مئات الآلاف ممن اعتقلوا وعذبوا وانتهكت أعراضهم، وملايين من الذين تهجروا ونهبت ممتلكاتهم، تحت مسميات طائفية شتى، أو أكاذيب، أو اتهامات باطلة، لم تُترك في نفوسهم إلا القليل من الرحمة، ومن لم ينجُ بها بالفرار، فقد كان من الطبيعي أن يحمل السلاح. عدة سنوات مضت على تلك الحال قبل أن يظهر داعش للوجود، حتى أن السؤال الصحيح لم يكن، لماذا ظهر؟ بل لماذا تأخر كل ذلك الوقت؟ كل الذين دفعوا ثمنا من شرفهم أو من حياة ذويهم، أو مما يملكون، كان من الطبيعي أن يبحثوا عن سبيل للانتقام أو لرد الاعتبار أو للبحث عن عوض ما. وحيث إن بدائل السياسة لم تترك حيزا للعبة خارج الإطار الطائفي المحكوم بميليشيات الأحقاد والفساد، فقد كان من العجيب ألا يبدو تنظيم كداعش ردا واقعيا على واقع ميؤوس منه ومغلق.
لقد أنتجت إيران نظام ميليشيات لكي يتيح لها دمارَ بلد لم يرث منها إلا حقدا تاريخيا. حتى أنها لم تكن تريد أن تستفيد من هيمنتها عليه، لتقديم نموذج لمشروعها الثوري الخاص. كانت تريده أرضا يبابا فحسب. وهذا ما كان.
الولايات المتحدة التي لأسبابها الخاصة، أرادت أن تعيد العراق قرونا إلى الوراء، عملت على تفتيت دولته وتمزيق مجتمعه، وتدمير كل مقوّم من مقومات ثقافته، بما فيها ذاكرته التاريخية، وآثرت الاستمتاع بمحتوى سافل لطبقة سياسية تجمع بين الرعونة والانحطاط الأخلاقي والسطحية الفكرية، إنما كانت تريد أن ترى بلدا محطما، فكان من الطبيعي أن يتحول إلى مستنقع، ينضح عفونة تلائم طبيعته الجديدة.
داعش ليس سوى فقاعات من ذلك المستنقع. إنه ابن بار لعفونة الخيارات الإيرانية والأميركية.
أفهل يمكن القضاء على تنظيم تولّد من ماكينة إنتاج كهذه؟ أفهل يمكن أن يتبدد بأي قوة عسكرية؟ داعش ليس مجرد رد فعل. إنه ظاهرة طبيعية ضرورية. حتى ليجوز القول إنه هو وحده الجواب. كمثل القول “هيك مضبطة، بدها هيك ختم”. إنه جواب منحط. نعم. ولكن، لواقع منحط نشأ قبله. ليبقى هذا ما بقي ذاك.