لم يكن سقوط الطائرتين المسيّرتين في الضاحية الجنوبية حدثاً عادياً، لا في توقيته ولا في شكله ولا في مضمونه. لكنّ الحديث عمّا أدى اليه من تغيير في قواعد الاشتباك ليس محسوماً بعد سوى بالمنطق الذي يحاول فيه «حزب الله» قيادة الحكومة اللبنانية إليه، طالما انّ أحداً من المسؤولين اللبنانيين لم يطّلع بعد او يكشف، على الأقل، عمّا كان المقصود بهذه العملية.
وكلّ ما عبّر عنه المسؤولون اللبنانيون بقيَ في حدود توصيف «حزب الله» للعملية، فجاءت بعض المواقف على لسان كبار المسؤولين استنساخاً لقراءة الحزب من دون الدخول في أية تفاصيل. فالتحقيقات التي أجراها «حزب الله» لم تصل الى اي مرجع رسمي، ولم يعرض بعد على المراجع الأمنية او العسكرية أو القضائية الرسمية أي «برغي» من حطام الطائرتين، كما قال مرجع أمني بارز.
لذلك، بقيت المعلومات التي جمعت من أرض الحادث على يد مجموعات من الضابطة العدلية ووحدات الشرطة القضائية والجنائية مجرد إيحاءات. فقبل وصول مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس، وأيّ من الوحدات التي تولّت التحقيق، كان مسرح الجريمة نظيفاً من أي آثار للطائرتين، وخالياً من كل شيء ما عدا بقايا الغبار الذي تركه انفجار إحداهما في بقعة الحادث.
والدليل الحاسم على ما سبق من الملاحظات جاء ساطعاً من اجتماع المجلس الأعلى للدفاع، وما تَسرّب منه أوحى انّ السلطات التي تَولّت التحقيق في الحادث لم تجزم بعد بأيّ من الفرضيات التي تدخل في صلب العملية وهدفها. حتى انّ مصدر إطلاق الطائرتين لم يثبت بعد. وهو ما أكدته المخاوف التي عبّر عنها بعض المشاركين في الاجتماع إذا ثبت انهما أُطلقتا من الأراضي اللبنانية، لكنّ عدم اطّلاعهم على نوع الطائرتين ومواصفاتهما لا يؤدي الى حسم اي رأي في هذا الإتجاه. فمَن أعطى مواصفاتهما لم يقدّم للسلطات اللبنانية تقريراً وافياً وصار الأمر رهن آراء بعض المنظّرين والخبراء وصولاً الى هواة مستخدميها من اللبنانيين، مع علمهم المسبق بوجود عشرات النماذج من هذه الطائرات في الأسواق اللبنانية والعالمية.
لم تكن هذه الهواجس مصدر قلق للمسؤولين اللبنانيين الذين يخوضون المواجهة السياسية والدبلوماسية، بقدر ما شَكّلت مصدر قلق أكبر لمسؤولي الأمم المتحدة، وفي مقدّمهم منسّقها في لبنان يان كوبيتش، الذي يجول منذ وقوع الحادث على المسؤولين اللبنانيين، حكوميين وعسكريين ومدنيين، وبعض القيادات الحزبية، مُستطلعاً ما يمكن أن يبلّغه الى الأمين العام للأمم المتحدة الذي وضعت أمامه الشكوى اللبنانية من دون اي إشارة الى دعوة مجلس الأمن للانعقاد.
فالمسؤولون اللبنانيون الذين تركوا خيارات الرَد لـ«حزب الله»، مُكتَفين بالحراك الديبلوماسي والسياسي، لم يتمكنوا من إرضاء كوبيتش الباحث عن تفاصيل العملية وأهدافها. فلا يكفيه شكل ما حصل، ولا يرضيه التوصيف الذي قدّمه لبنان على انه خروج عن مقتضيات القرار 1701 الذي قال بتجميد العمليات العسكرية، ولم يشبعه الحديث عن تغيير قواعد الإشتباك وصولاً الى حال إعلان الحرب. فكل هذه الأمور لا تعنيه في شيء ما لم يصل الى معلومات مؤكدة عن الهدف من العملية. وهل هي عملية استطلاعية فحسب، أو انها محاولة جرمية للخروج عن قواعد الإشتباك؟
فالأمم المتحدة - بحسب مَن التقوا كوبيتش - تسجّل في اليوم الواحد وتتلقى الشكاوى اللبنانية بعشرات الخروق الجوية للطائرات المسيّرة وتلك التجسسية التي ترصد يومياً الاراضي اللبنانية، ولم تقم أي واحدة منها بما حصل في الضاحية الجنوبية. وفي حال اعتماد مبدأ حصول الخطأ التقني المحتمل او العطل المفاجىء، يكون ما حصل مجرد حادث عارض.
وبناء على ما تقدّم، لا يبدو أنّ أياً من الديبلوماسيين الغربيين الذين جمعهم رئيس الحكومة سعد الحريري قبل يومين، ولا يبدو انّ الديبلوماسيين العرب، متأكدون من حجم العملية كما صَوّرها اللبنانيون، بدليل انّ اسئلتهم لم تَنتهِ عند اللقاء مع الحريري، فبعض أجهزتهم جَهدَ في الحصول على معلومات إضافية حول الحادث ونتائج التحقيقات وما يمكن الركون اليه قياساً بحجم الإتهام الذي وَجّهه لبنان. علماً انّ تقارير الأمم المتحدة التي صدرت بعد الحادث لم ترصد أي حراك اسرائيلي غير طبيعي، وما أكّد عليه قائد القوات الدولية، الذي جال على المسؤولين امس الأول، يثبت ذلك.
وفي خضمّ هذه القراءات المُلتبسة لِما حصل، نُقل عن كوبيتش قوله، في بعض اللقاءات التي جمعته بالمسؤولين اللبنانيين، انه ما زال يبحث عن جديد يبلّغه الى الأمم المتحدة، وهو تَساءلَ عن دور الحكومة اللبنانية في ما يمكن ان يؤدي اليه الحادث والتطورات المحتملة من دون ان يلقى جواباً منطقياً او حاسماً حتى اللحظة. وكل ما كان حاسماً به، بمعزل عن الحادث، انّ التمديد للقوات الدولية في الجنوب حاصل قبل نهاية الأسبوع من دون اي تعديل في مهماتها حتى بالنسبة الى طلبَ لبنان بإضافة ما يؤدي الى رعاية المفاوضات لترسيم الحدود البرية والبحرية، لن يدخل في صلب القرار المنتظر.