لا يمكن الاستفاضة كثيراً في التأكيد على البعد الاستراتيجي لهذا الخرق، يكفي أن يتزامن إرسال الطائرتين المسيّرتين إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، تقريباً مع استهداف إسرائيل لمجموعة «حزب الله» في عقربا السورية، وربطها بسلسلة الغارات والضربات التي استهدفت مجموعات «الحشد الشعبي» في العراق، لتتبّع خيطٍ مترابطٍ من الأحداث التي تشي بأنّ ثمّة قراراً إسرائيلياً بتغيير قواعد الاشتباك في الشرق الأوسط ككل.
منذ سنوات، لم تقم إسرائيل بشنّ ضرباتٍ على أهداف مرتبطة بإيران في سوريا، التي ظلّت، بسبب ظروفها الميدانية المعروفة، منطقةً عازلة بين الخطوط الحمراء المرسومة ليس على مستوى اللاعبين الإقليميين فحسب، بل على مستوى اللاعبين الدوليين.
هي حاولت بالفعل تغيير قواعد الاشتباك أكثر من مرة، ولكنها أخفقت، بدليل ما حدث حين تسبّبت في لحظة معيّنة بإسقاط طائرة «اليوشين» الروسية في أيلول العام ٢٠١٨، وما جاء عليه رد الفعل الروسي على المستوى الاستراتيجي، بعد نشر منظومة «اس-٣٠٠».
اليوم، تمضي إسرائيل في مغامرة أوسع نطاقاً، مستغلّةً التناقضات الدولية التي تبدّت بعد ساعات قليلة على أحداث عقربا والضاحية الجنوبية، حين استضافت باريس وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف.
هكذا تحاول إسرائيل توسيع نشاطها ضد إيران في الشرق الأوسط، سواءٌ لأغراض تكتيكية متصلة بالوضع الداخلي (انتخابات الكنيست) أو لأغراض استراتيجية متصلة بالملف النووي الإيراني، في ظلّ حالة عدم اليقين السائدة في تل أبيب حول خيارات دونالد ترامب في ما تبقى من ولايته الرئاسية الأولى، والحديث المتكرّر عن احتمال جلوس الإيرانيين والأميركيين مرة جديدة حول طاولة التفاوض.
بذلك يطرح ما جرى في الضاحية الجنوبية تساؤلاتٍ حول ما إذا كانت إسرائيل ماضية في تنفيذ الهدف المحدَّد ضد «حزب الله»، وعلى نطاق أوسع، إيران، ما يزيد من خطر نشوب صراع أوسع، لن تقتصر تداعياتُه على الجبهة اللبنانية.
في الواقع، فإنّ ما قامت به إسرائيل يعني بكل بساطة أنّ الكلمة الآن باتت للميدان، حيث لم تعد الدبلوماسية إلّا تفصيلاً، لهذا فإنّ الكل يترقب مجريات الخطوة اللاحقة، على رقعة الشطرنج، والتي صارت «النقلة» فيها لدى «حزب الله»، خصوصاً أنّ المناخ السائد في إسرائيل حالياً في انتظار طبيعة الردّ على هجومَي الضاحية وعقربا، أي أنّ «حزب الله» بات يمتلك وحده قدرة تحديد قواعد اللعبة، أقلّه في الجولة الحالية.
هنا يبدو السؤال محدَّداً، وهو يتردّد اليوم على لسان الجميع: هل الحربُ حتميّة؟
للاجابة عن السؤال، ثمّة حاجة إلى إعادة ترتيب قطع «البازل» في المشهد منذ البداية:
ليل ٢٤-٢٥ آب، تحطمت طائرتان بدون طيار في الضاحية الجنوبية. كانت الطائرتان المتوفّرتان تجارياً في الواقع من النوع نفسه الذي استخدمته إسرائيل من قبل. لم تطالب إسرائيل بطائرتها التي سيطر عليها «حزب الله»، وهي لم تؤكد، بطبيعة الحال، حتى الآن رسمياً المسؤولية عن الهجوم، وعلى الأرجح أنها لن تعلن عن مسؤوليتها، طالما أنّ عمليّتها لم تحقق هدفها المفترض، الذي لا يزال غير واضح حتى الآن، إلّا لدى المستويات العليا في إسرائيل، وكذلك عند «حزب الله».
ما جرى بعد ذلك معروف للجميع. بعد ساعات على اعتداء الضاحية، أعلن الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله أنّ قواعد الاشتباك قد تغيّرت بالفعل، بسبب ما أقدمت عليه إسرائيل، خصوصاً أنّ هذا أول هجوم إسرائيلي على لبنان منذ حرب تموز، وبالتالي فإنّ الرد آتٍ بعد يوم، أو اثنين، أو أكثر، مع التأكيد على أنّ هذا الرد لن يقتصر على منطقة مزارع شبعا، خصوصاً أنّ اعتداءَ الضاحية ترافق مع ضربة عقربا التي خسر فيها الحزب اثنين من كوادره، وهو ما سعت إسرائيل الى استغلاله في الداخل كما في الخارج الى أقصى حدّ ممكن.
هكذا نقلت إسرائيل التوتر الى مستوى جديد يتجاوز حدود الاشتباكات المعزولة منذ عام 2006، حين تجنّبت توجيه ضربة ضد «حزب الله» مباشرة في لبنان إلى حدّ كبير بسبب الخطر الكامن وراء تصعيد خطير، حيث يمكن أن يفترض «حزب الله» أنّ أيّ ضربات هي مجرد الموجة الأولى من هجوم مفاجئ قد يؤدي إلى ضرب صواريخه الرئيسة وغيرها من البنى التحتية، ما يستدعي الردّ السريع، وبالتالي الذهاب إلى الحرب.
وفي الواقع فإنّ التوترات بين «حزب الله» وإسرائيل وحدها هي من العوامل التي تؤدي الى انفجار حرب شاملة، فكيف الحال وهي مقترنة اليوم بزيادة التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، والتي تبدو إسرائيل طرفاً مباشراً فيها اليوم، والدليل هجوم الضاحية وما سبقه من هجمات في سوريا والعراق.
ثمّة عناصر كثيرة تدعو الى القلق، ولكن ثمّة عناصر مقابلة تشي بإمكانية احتواء الموقف، وبالتالي البقاء عند نقطة متوسطة بين الحرب والسلم، بمعنى العودة الى خط ما قبل ليلة الضاحية، مع بعض المتغيّرات التي فرضتها الأحداث الأخيرة:
- العنصر الأول هو الانتخابات الإسرائيلية، التي ما من شك أنها تُعد من بين المحرّكات الاساسية للمغامرات الحالية، فمثل هذه الضربات تجعل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يبدو وكأنه مدافع قوي عن الأمن القومي بما ينقذه من فضيحة فساد كبيرة يواجهها، وما يتعرض له من انتقادات لعدم تحرّكه بحزم بما فيه الكفاية ضد «التهديدات» الآتية من غزة.
هذا ما يطرح احتمالين، فإما أنّ بنيامين نتنياهو سيتلقى ضربة الرد المؤكدة من «حزب الله» ويبني عليها خيار التصعيد أو التهدئة بحسب مدى تأثيرها على وضعه الانتخابي، وإما أنه سيذهب في المواجهة الى نقطة أبعد ضمن سياق سياسة الهروب إلى الأمام من الاستحقاقات الداخلية.
- العنصر الثاني، هو مسار العلاقات الأميركية- الإيرانية، فبحسب صحيفة «ذي تايمز أوف إسرائيل» فإنّ مسؤولين حكوميين إسرائيليين قد أعربوا عن قلقهم إزاء احتمال إجراء محادثات نووية بين الولايات المتحدة وإيران. وإذا ما مضت الولايات المتحدة وإيران في هذا الخيار، فقد يدفع ذلك إسرائيل إلى التصرف لإفساد أية مفاوضات تعتقد أنها لا تكبح نفوذ طهران الإقليمي.
- العنصر الثالث هو طبيعة رد «حزب الله»، الذي يمتلك مروحة واسعة من الخيارات تتراوح بين تحقيق الردع الاستراتيجي ضد إسرائيل انطلاقاً من لبنان، وهو ما قاله السيد نصرالله، خصوصاً أنّ الاعتداء الإسرائيلي الأخير قد حصل في قلب بيروت.
وبين الردّ في سوريا، بجرعة أعلى من السابق، حيث قواعد الاشتباك بين إسرائيل وإيران وحلفائها راسخة نسبياً، وهذا ما يبقي لبنان خارج اللعبة في أيّ دورة لاحقة من الضربات المضادة.
وهناك مَن يقول إنّ «حزب الله» قد يفضّل هذا الخيار في ضوء الاقتصاد الضعيف في لبنان والحصار المالي، ذلك أنّ أية حرب واسعة النطاق ستكلّف الكثير في ظلّ شبح الانهيار الاقتصادي، وايضاً الحصار المفروض على إيران.
- العنصر الرابع، قد يكون الأكثرَ أهمية، وهو أنّ التوتر القائم لا ينفي حقيقة أنّ أحداً لا يريد الحرب فعلاً - في ما عدا إسرائيل ربما - وهو ما ينطبق بالتحديد على إدارة دونالد ترامب، التي أحجمت حتى عن الرد على إسقاط طائرتها على أيدي الإيرانيين في الخليج، والتي قد تدفع باتجاه الضغط لاحتواء الموقف، ليس لأنّ رئيسها غير مستعد للانخراط في مغامرات تُفسد حملته الانتخابية التي انطلقت بالفعل، بل ايضاً لأنّ أيَّ تطوّر عابر للحدود بين لبنان وإسرائيل سيشكل سريعاً فرصة لروسيا لأن تدخل بكل ثقلها لقطف الثمار في نقطة لا تزال حتى الآن منطقة نفوذ أميركي.