على مدى ثلاثة أيام شهدت مدينة ليندوا في ولاية بافاريا جنوب ألمانيا اللقاء العاشر لرابطة «الأديان من أجل السلام»، والتي تأسست عام 1970 وتتألف من مجلس عالمي لكبار القيادات الدينية من جميع مناطق العالم، وتعد أكبر تحالف أممي متعدد الأديان.
أدرك القائمون على الرابطة مبكراً جداً الجواب عن تساؤل الكاتب والمفكر الفرنسي الكبير أندريه مالرو، ذاك الذي طرحه في ستينات القرن الماضي عن طبيعة وهوية القرن الحادي والعشرين وهل سيكون قرناً دينياً أم لا؟
والشاهد أنهم استشرفوا مسبقاً أنه سيكون قرناً مغرقاً في التدين، وربما لم يتوقع جلهم أن تكون الأصولية الدينية هي أخطر ملامح هذا القرن، ولهذا يأتي هذا اللقاء من أجل العمل معاً على البحث في مستقبل البشرية المشترك، والدور الذي تلعبه الأديان ورجال الدين من مختلف الأطياف والأطراف في توحيد شأن البشرية، وتعزيز العمل المشترك بين المجتمعات الدينية عالمياً، من أجل بسط سجادة السلام المحبوبة، وإبعاد أشباح الحروب والصراعات المكروهة، ومكافحة النزاعات، والنهوض بالتنمية البشرية، وتعزيز المجتمعات العادلة والمتناغمة، ومن دون إغفال ما يتعرض له كوكب الأرض من مخاطر جسيمة تكاد تهلك كوكبنا الأزرق مرة واحدة وإلى الأبد.
في كلمته الافتتاحية ذهب الرئيس الألماني فرانك فالترشتاينماير، إلى النظر إلى الأديان بوصفها داعماً قوي التأثير ومرناً بالنسبة إلى السلام، ويمكنها تقديم خدمة لا غنى عنها ولا يمكن الاستغناء عنها أيضاً بالنسبة إلى عموم البشر، مضيفاً أنه يمكن أيضاً إساءة استغلال الإيمان والدين، واعتبارهما في بعض المرات دوافع لنيات غير دينية وتسخيرهما من أجل أهداف سياسية.
والثابت أن لقاء ليندوا يأتي في توقيت مثير وحساس، حيث يرتفع خطاب الكراهية ضد الأديان بشكل مخيف حول العالم، ونرى بنوع خاص حالة تحريض ضد أتباع الأديان، الأمر الذي دعا الكثيرين لا سيما من الشباب حول البسيطة إلى التساؤل المخيف التالي: «هل الأديان هي سبب العنف والحروب والخلافات التي نشهدها حول العالم؟».
يمكن القطع بأن الأديان لم تكن يوماً السبب فيما يجري حول الكرة الأرضية، ولهذا لا ينبغي إلقاء اللوم عليها في ذاتها، بل يتوجب إلقاء اللوم على أولئك الذين يسيئون تفسير المعتقد الديني، أو يتلاعبون به لارتكاب الشر، على أساس أنه من عند الله، وذلك لتحقيق أغراض سياسية أو آيديولوجية.
تركزت النقاشات هذا العام على دور المرأة في عمليات السلام، وهو دور رئيس في واقع الأمر، ذلك أن المرأة منوط بها أن تغرس قيم السلام والحب، والأمل والرجاء، والطمأنينة والتواصل، في نفوس الأطفال منذ بواكير حياتهم، والتاريخ يخبرنا بأن المرأة كانت سبباً في إحلال السلام أو قيام الحروب عبر الأجيال التي تربّت على قيم الكراهية أو مبادئ المودّات.
لم تكن المملكة العربية السعودية لتغيب عن هذا الحضور الخلاق، فعبر مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات «كايسيد»، كان الحضور السعودي المشارك بفعالية وجدية، بل يمكن القول، المشارك برصيد تقدمي من الأنشطة الدولية التي تسعى في طريق تعميق السلام وإزاحة شبح الخصام.
يلفت النظر أن هناك مصادفة بعينها بين التركيز على دور المرأة في إحلال السلام حول العالم، وما تقوم به المملكة في الأوقات من تذليل العقبات أمام المرأة السعودية، من أجل أن تسترجع ما كان لها من مكانة في صدر الحضارة العربية والإسلامية، ما يجعل منها قيمة مضافة حقيقية، وليست عبئاً كما صوّرها البعض لعدة عقود خلت.
العلاقة بين «كايسيد» و«رابطة الأديان»، من أجل السلام ليست وليدة اليوم، فقد استضاف المركز عام 2013 أحد لقاءات هذا التجمع ونتج عن ذلك اللقاء عدة مشاريع لدعم التعاون متعدد الأديان في البلدان التي تنوء بأعمال العنف، وإتاحة الفرص للشروع في عملية بناء السلام، فضلاً عن مد وبناء الجسور بين القيادات الدينية المتنوعة في مناطق مختلفة حول العالم، خصوصاً التي تشهد نزاعات يُستغل فيها الدين لتسويق التطرف والعنف، والحث على ارتكاب أعمال إرهابية، ناهيك عن صياغة إجماع أخلاقي عميق بشأن التحديات المعاصرة.
بات العالم ونحن على مشارف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين أمام ثلاثة أشكال من الإرهاب الموجّه إلى أتباع الأديان، والتي يتوجب إدارتها والوقوف صفاً في مواجهة القائمين عليها بالفكر والقول والفعل.
الإسلاموفوبيا، والكراهية الواضحة، وتأليب الشعوب على بعضها بعضاً تقلب العالم إلى جحيم، وما قام به «داعش» ومَن لفّ لفه دليل على سوء الكارثة، ثم معاداة السامية الموجهة ضد يهود العالم.
ذات مرة من ثمانينات القرن المنصرم أشار عالم اللاهوت السويسري الشهير هانز كنغ إلى أنه «لا سلام بين الأمم من دون سلام بين الأديان»... اليوم تثبت صحة هذه المقولة جملةً وتفصيلاً، إن أردنا مستقبلاً أفضل للإنسانية بأسرها.