شهدت فرنسا هذا الأسبوع موعدين دبلوماسيين رفيعي المستوى، أولهما قمة إيمانويل ماكرون – فلاديمير بوتين، وثانيهما قمة الدول الصناعية السبع الكبرى. ومع تراكم الملفات الخلافية والقضايا الساخنة يبدو ماكرون مصرّا على الدبلوماسية الوسيطة وعلى إعادة إطلاق الحوار الجيوسياسي مع روسيا والتعامل ببراغماتية مع قادة غربيين من أمثال دونالد ترامب وبوريس جونسون. لكن من الواضح أن الملف الأصعب سيكون الملف الإيراني الذي يشكل اختبارا للدور الفرنسي الوسطي خاصة مع استمرار مساعي باريس وسط تعقيدات جمّة.
بالرغم من فشل مبادرات متكررة للدبلوماسية الفرنسية منذ سبتمبر 2017، ينتهز الرئيس ماكرون فرصة هذا الماراثون الدبلوماسي كي يحاول تمرير اقتراحات يطمح لموافقة إيرانية مسبقة عليها، خاصة وأن المشاورات على أعلى مستوى بين الطرفين لم تنقطع منذ مهمّة مستشار الرئاسة الفرنسية إلى طهران.
انطلاقا من تفاهم مع الرئيس فلاديمير بوتين الذي أشاد بتمسك فرنسا بالاتفاق النووي للعام 2015، ونتيجة قناعة فرنسية بخطورة وضع المراوحة في المكان وعدم استبعاد التصعيد، يكرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عرضه السابق الذي يقضي بتخفيف العقوبات على إيران أو توفير “آلية تعويض لتمكين الشعب الإيراني من العيش بشكل أفضل”، في مقابل الامتثال التام للاتفاق، على أن تتبع ذلك مفاوضات مع إيران حول مسائل رفضت طهران حتى الآن تناولها وهي مسألة الصواريخ الباليستية والانخراط الإيراني في الأزمات الإقليمية.
تبدو باريس مصمّمة على الحفاظ على اتفاق فيينا الذي لا يزال برأيها أفضل وسيلة للسيطرة على البرنامج النووي الإيراني، وهذا يتناغم مع اعتبار إيران له بأنه الصفقة المثلى التي تخدم مصالحها.
وحسب التقييم الفرنسي، تتجاوز الأزمة القضية النووية، مع انتشار المخاطر على الملاحة الدولية في الخليج ومضيق هرمز، ومن هنا التركيز على “تخفيف التصعيد” بالاشتراك مع موسكو في المقام الأول، لأن الأولوية بالنسبة للطرفين تتمثل في عودة طهران إلى احترام التزاماتها، وتخشى العاصمتان من انتقال طهران إلى تطبيق استراتيجية الخروج من الاتفاق النووي بدءا من سبتمبر القادم، خاصة أنه في الوقت الحالي، فشل الأوروبيون والروس والصينيون بدرجة أقل في الالتفاف أو التخفيف من آثار العقوبات الأميركية.
يتم استئناف المساعي الفرنسية بعد القمة مع بوتين واستقبال وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، عشية قمة بياريتز للدول الصناعية السبع الكبرى، حيث سيحاول الرئيس الفرنسي الاستناد إلى دعم أوروبي وكندي وياباني من أجل “إقناع” الرئيس دونالد ترامب بأهمية تخفيف التصعيد مع طهران. وفِي هذا الإطار يبدو رهان ماكرون مبالغا فيه، إذ سبق لسيد البيت الأبيض أن غمز من قناة الرئيس الفرنسي وتوجهه المباشر إليه بأنه “يتكلم باسمه مع إيران لكن ليس باسم الولايات المتحدة”، وهذا التعبير العلني عن الانزعاج الأميركي مردّه عدم مجاراة باريس ولندن وبرلين للموقف الأميركي، وتكمن وراء ذلك خشية الأوساط الأوروبية من سعي واشنطن للاستفراد بترتيب ثنائي مع طهران توافق عليه روسيا ضمنا ولا يراعي المصالح الأوروبية.
مقابل ذلك يهزأ مصدر دبلوماسي أميركي من هذا الافتراض ويقول إن “الابتعاد الأوروبي عن واشنطن في هذا الملف لن يساعد على الحل السياسي”، وأن “عدم وحدة الموقف الدولي وخاصة الموقف الغربي يزيد من تعنّت طهران”. ولذا ليس هناك من توقّع لاختراق كبير على هامش قمة السبع التي تعاني من التناقضات الأميركية – الأوروبية.
للتذكير كان لباريس في حقبة الرئيس الأسبق فاليري جيسكار ديستان دور مفصلي في إطلاق منتدى الدول الصناعية الكبرى المسمّى مجموعة السبع والتي أصبحت مجموعة الثماني في 1997 مع انضمام روسيا إليها بعد نهاية الاتحاد السوفييتي والحرب الباردة. لكن أزمة أوكرانيا قادت منذ عام 2014 إلى إخراج موسكو منها وعاد هذا المنتدى غربيّ الطابع وأقل تمثيلا من مجموعة العشرين التي تضم أهم اقتصادات العالم.
تراجع الديمقراطيات وتصدع العولمة بسبب التحولات الاقتصادية والسياسية ووصول الرئيس دونالد ترامب قادا إلى اهتزاز وضع مجموعة السبع نظرا لسياسة الإدارة الأميركية الأحادية، وتنكرها للاتفاقيات في حقول التغيير المناخي والتجارة الحرة وغيرها، وكانت القمة الأخيرة في كندا أكبر دليل على هذا الوضع الاستثنائي لهذه المجموعة. من هنا لا تبدو مهمة ماكرون سهلة أمام ترامب الذي فاجأ بطرحه إعادة روسيا إلى المجموعة ورحّب بذلك وزير الخارجية الروسي بالرغم من التوتر الكبير بين البلدين بخصوص سباق التسلّح. وفِي الدعوة الأميركية إحراج للثنائي الفرنسي – الألماني الذي ينتظر تنازلات من روسيا في أوكرانيا قبل أي انفتاح. هكذا ليس من الأكيد أن الوسطية الفرنسية وحرص باريس على الدبلوماسية متعددة الأطراف سيسمحان باختراق يعيد للمجموعة ألقها وفاعليتها.
وتزداد صعوبة رهان ماكرون لأن الموقف الإيراني ملتبس وفيه جانب كبير من المناورة. من الناحية العملية يتراوح موقف طهران بين بعض تصريحات التهدئة وإعلانات التصعيد وممارسته أحيانا. وخلال هذا الأسبوع بينما كان وزير الخارجية الإيراني يعلن استعداد بلاده للعمل على دراسة المقترح الفرنسي، كشفت طهران عن منظومة جديدة للدفاع الصاروخي محليّة الصنع في رسالة “هجومية” جديدة بحضور الرئيس حسن روحاني الذي تباهى باستعراض عضلات بلاده العسكرية، ويعني ذلك وجود تناقض مع حديث وزير خارجيته عن مساع لدراسة مقترحات التهدئة مع واشنطن. ومما لا شك فيه أن ازدواجية الخطاب تمثل إحدى أدوات الأداء الدبلوماسي لطهران.
وفِي هذا السياق يعتقد مصدر إيراني أن “طهران حسمت خيارها بالمماحكة في الرد على مبادرات ماكرون وغيره، وبعدم التفاوض مع واشنطن على الأقل من الآن وحتى موعد الانتخابات الأميركية”، وتعتمد الحسابات الإيرانية على قراءة معمّقة لسقف الموقف الأميركي المرتبك وللمواقف الدولية الأخرى، وكذلك لمجمل المشهد الاستراتيجي في ظل افتراضها بعدم وجود قرار أميركي بالحرب خاصة قبل الانتخابات الرئاسية.
فِي المحصلة تبدو الرهانات على نجاح الوسطية الفرنسية في ملفات السياسة الخارجية محدودة في عالم التنافسية والانكفاء الوطني.