يشكلُّ التعايش الإسلامي المسيحي في البقاع انموذجاً للعيش المشترك، تتقارب فيه الكنيسة مع المسجد، وتتوافق فيه الأفكار في ضرورة الحفاظ على تلك الصورة التي لم تهتزّ أيامَ الحرب الأهلية، ولم تشهد المنطقة أيّاً من المشكلات حينها، وكان السيد موسى الصدر سبّاقاً في دفاعه وحمايته لمسيحيي دير الأحمر وجوارها، وإلى الآن لا تزال تلك الصورة ناصعةً لا تعتريها شائبة، بل أصبحت مثالاً يحتذى.
ولم تفلح المجموعات الإرهابية والتكفيرية خلال الأزمة السورية ووجودها في جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع، في ثني أهالي رأس بعلبك والقاع عن مناطقهم والتخلّي عنها، بل إستشرسوا في الدفاع عن الأرض، ووقفوا إلى جانب الجيش حاملين السلاح لحماية أنفسم وأهلهم، ولم تنجح التفجيرات التي طاولت الأهالي هناك في تهجيرهم حيث ظنّ كثر أنها ستكون سبباً في هجرتهم دون عودة، بل زادتهم صموداً في أرضهم وعملاً على تثبيت الوجود.
وجاءت الإنتخابات النيابية الأخيرة لتثبت أنّ المسيحيين أبناء هذه المنطقة اصحاب رأي وفكر وقرار، إنتخبوا بكثافةٍ في العملية الإنتخابية واختاروا ممثليهم بعد سنوات على مصادرة قرارهم ورأيهم، وهنا يحاول البعض اللعب على ذلك الوتر مستغلّاً وجوده في السلطة ليعمل على ثني الناس عن مبادئهم وتوجّهاتهم السياسية التي عبروا عنها في الإنتخابات الأخيرة، من منطلق العمل للإنتخابات المقبلة وكسب الأصوات فيما الناس هنا تصوّت لمن وقف ويقف معها ويعمل لأجلها.
وجود وثبات المسيحيين في البقاع الشمالي أو ما يُسمى مسيحيّي الأطراف لا يرتبط بعمل الأحزاب السياسية المسيحية وبدور الكنيسة في تثبيت الناس بأرضهم ودعوة المهاجرين للعودة، بل يرتبط أيضاً بسياسة الدولة الإنمائية الغائبة عن المنطقة ككل والتي تشكلّ معبراً لكل الطوائف للبقاء بأرضهم، ناهيك عن دور بعض الجمعيات التي تستغلّ تلك الشعارات لجمع الأموال والتبرعات على مبدأ صرفها في مشاريع لتلك المناطق، أما على أرض الواقع فلا يرى أهل المنطقة إلّا الفتات منها، وهنا ينتظر أبناء رأس بعلبك والقاع وقوف الدولة والأحزاب إلى جانبهم للبقاء في أرضهم رغم كل الظروف.
راعي أبرشية بعلبك للروم الكاثوليك إلياس رحال، وفي حديث لـ»الجمهورية» لا يرى هجرة من أبناء رأس بعلبك والقاع في الوقت الحالي وهي خفيفة وداخلية، بل كانت هناك هجرة قديمة إنتشر فيها ابناء المنطقة بين زحلة وبيروت لتعليم أبنائهم وللعمل، إضافةً إلى هجرتهم خارج لبنان، وخلال التفجيرات الإرهابية كان هناك خوف أن يترك أبناء البلدتين منازلهم، لكنّ النتيجة كانت معاكسة في مزيد من الصمود ووقوف أبناء البلدتين القاطنين في بيروت إلى جانب أهلهم. ويرى أنّ حرمان المنطقة من أدنى الأمور ومتطلبات الحياة التي يحتاج اليها المواطنون، هو ما يسبّب لهم الأسى ويدفعهم للنزوح من مناطقهم، والدولة اللبنانية لم تضع المنطقة على الخريطة رغم وجودنا كمحافظة، ويحمّل رحال المسؤولية لنواب المنطقة ممزوجةً بالمحبة والإحترام، ويسأل عن صوتهم ومطالباتهم للمنطقة».
وعن مشاريع يعمل لأجلها لأبناء المنطقة ودور الكنيسة يضيف رحال «لا مشاريع في الوقت الحالي، بل مطالب لمشاريع تؤمن فرص عمل، إضافة إلى إنشاء جامعات تغني أبناء المنطقة عن مشقات السفر إلى زحلة يومياً، وكل هذا يتحقق مع الإستقرار الأمني وعودة الدولة إلى المنطقة، داعياً أبناءَ رأس بعلبك والقاع المغتربين والمتواجدين داخل لبنان لزيارة بلداتهم، وتشييد منازل فيها».
بدوره يرى المحامي جاد رزق إبن بلدة رأس بعلبك في حديث لـ»الجمهورية» «أنه وفي الآونة الأخيرة كثرت الجمعيات والجهات التي تطرح نفسها على أنها تقدّم الحلول والمساعدات للحفاظ على بقاء الشباب المسيحي في بلداته، غير أن تلك الخطوات لم تعالج أساس الموضوع، لأنّ إنماء الريف ومناطق الأطراف مرتبط بالسياسة العامة للدولة، أي الخطة الإقتصادية والإجتماعية، وعلى سبيل المثال، لا بد من حماية الزراعة كون المنطقة زراعية، سائلاً عن مشروع سدّ العاصي ومشروع الضم والفرز، وتشجيع المناطق الصناعية في الريف. وعن دور البلديات أضاف أنّ «تأخّر الدولة في دفع المستحقات للبلديات منذ الـ 2017 يعيق تنفيذ كل المشاريع الإنمائية، ومنها طريق بعلبك القاع الدولية»، وختم «أنّ السياسة المتّبعة تدفع للبقاء في الريف المسيحي والذي أصبح قدراً محتوماً لكل مَن لا يستطيع الهجرة».
غياب الإنماء في بعلبك الهرمل، وإقتصار العمل على المطالبة فقط ورفع الصوت، يدفع بأبناء المنطقة ككل وليس الشباب المسيحي إلى الهجرة، في ظلّ تلكّؤ المعنيين من أحزاب وإدارات رسمية ومسؤولين عن القيام بواجبهم لدفع الناس وتشجيعهم على البقاء في أرضهم.