تفصح التحركات العسكرية التي أفضت إلى سقوط خان شيخون وضواحيها في يد قوات النظام في دمشق، عن أن التطوّر يقلب موازين ميدانية على حساب المعارضة السورية، لكن يسلّط المجهر على خسارة مدوية لتركيا وعلى قضم مستمر لنفوذها في شمال سوريا. يطرح الأمر أسئلة عن تقلّص خرائط أنقرة داخل سوريا، وعن مدى استمرار اتّساقها مع طموحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تثبيت نفوذ لبلاده داخل سوريا اليوم، كما سوريا الغد.
تكشف المعارك الأخيرة عن ذهاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، شريك أردوغان في إرساء منطقة خفض التصعيد في منطقة إدلب، بعيدا في تجاوز التفاهمات القديمة واستخدام القوة النارية المفرطة لفرض أمر واقع جديد لطالما عملت أنقرة على عرقلة إنجازه. وحتى حين أطلقت تركيا رتلها العسكري مخترقا الحدود التركية السورية، بما فهم أنه دعم لقوات المعارضة، أرسلت قاذفات دمشق وموسكو رسائل نارية واضحة أوقفت على نحو مذلّ التدخل العسكري التركي.
تخسر تركيا في تلك المناطق في ما قد يُعتبر ردا على تفاهماتها الأخيرة مع الولايات المتحدة بشأن المنطقة الآمنة شرق الفرات. وللدقة تخسر تركيا هنا فعلياً ما قد يمكن أن تربحه هناك نظرياً. أمر الكسب النظري مرتبط بصدق واشنطن في تنفيذ وعودها الأخيرة في التشارك مع أنقرة في إطلاق تدابير وإجراءات من شأنها طمأنة الطرف التركي وتعزيز أمنه الحدودي في تلك المنطقة شرق الفرات.
يطرح المعارضون السوريون أسئلة حول حقيقة الدعم التركي لقواتهم في المنطقة الخاضعة لتفاهمات بوتين- أردوغان. تذهب تلك الأسئلة إلى استغراب لجوء أنقرة إلى حشد القوات العسكرية قبل أسابيع على الحدود التركية السورية إيذانا ببدء عملية عسكرية ضد الأكراد شرق الفرات، فيما لا يبدو أن أنقرة معنية كثيرا بمعركة واضحة المعالم هدفها فتح طريق دمشق حلب بما يبدد طموحات أردوغان في امتلاك ناصية القول والقرار في هذه المنطقة، وبما يعزز موقع دمشق وطهران وموسكو على حساب أنقرة داخل المشهد السوري.
قد تحاول أنقرة إعادة رسم الخرائط بين ما هو متاح وما هو مستحيل في تحولات سوريا الراهنة. لكن حظوظ أردوغان تبدو هزيلة في غياب أي مظاهر ردع توقف التقهقر التركي في سوريا. باتت مطالب أنقرة تدور حول نقطة المراقبة التابعة لها في مورك لعلّ في ذلك ما يحفظ ماء وجه الأتراك دون كثير اكتراث بالهزيمة التي مني بها حلفاؤهم في المعارضة. والحال أن روسيا وإيران ونظام دمشق جاهروا في الغمز من قناة الاتفاق التركي الأميركي حول المنطقة الآمنة شرق فرات. وضع الأمر جهود موسكو وطهران داخل سوريا موحدةً منسجمةً في شمال سوريا، فيما هي متباينة تشهد احتكاكات متكررة في مناطق سورية أخرى. وتكشف أنباء بيروت حول توجه وحدات جديدة تابعة لحزب الله إلى سوريا، أن إيران وحزبها وبقية جماعاتها منخرطون في المعركة الأخيرة بالتنسيق والرعاية السياسية والعسكرية لروسيا والكرملين في موسكو.
تظهر خسارة تركيا واضحة في خان شيخون لفتح طريق دمشق حلب وإمكانية تطور المعركة باتجاه سراقب لفتح طريق اللاذقية حلب. وإذا لم يطرأ ما يغير “قَدر” هذه المعركة، فإنه لن تبقى لتركيا غرب الفرات إلا منطقة تبلغ مساحتها أقل من نصف ما كانت تسيطر عليه وحلفاؤها في المعارضة شمال البلاد. طبيعة هذا السيناريو يفرض منطقين: إما أن تركيا مسلّمة بقرار روسيا مقابل أرباح أخرى من الصعب العثور عليها، وإما أن تركيا عاجزة عن مواجهة القوة النارية الروسية، وفي هذا تقهقر لموقف أردوغان أمام موقف نظيره في روسيا.
بالمقابل يسهل التشكيك هذه الأيام في اتفاق اللحظة الأخيرة حول شرق الفرات حيث قيل إن وزيريْ الدفاع في واشنطن وأنقرة أنقذاه من فشل. لن يتحقق لتركيا طموحها في السيطرة على منطقة آمنة بعرض 460 كلم وعمق 32 كلم، فيما تتحدث بعض التسريبات عن أن هذا الاتفاق الذي بقيت تفاصيله، للمفارقة، غامضة يشمل منطقة عرضها حوالي 80 كلم كحد أقصى وعمق 15 كلم على الأكثر. كما أن هذه المنطقة لا تحتفظ بالتسمية التركية (المنطقة الآمنة)، بل يتحدث الأميركيون عن ترتيبات عسكرية ستجري داخلها. ثم إن التشكيك لا ينحصر بالمراقبين، بل إن تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو حول عدم السماح بأن يلقى مصير هذا الاتفاق ما لقيه الاتفاق حول منبج، يؤكد شكوك أنقرة في أن ينفذ الأميركيون تعهداتهم الجديدة.
على أن الحركة العسكرية لنظام دمشق وحلفائه الكبار تطرح أسئلة حول مواقف اللاعبين الآخرين. تحاول موسكو أن تفرض بالنار رؤيتها للحلّ على كافة دول العالم، وتسعى لتسويق نسختها للتفاوض بين نظام ومعارضة، وتبشر بقرب التوافق على لائحة اللجنة الدستورية. تسعى روسيا لفرض أمرها العسكري الواقع في سوريا بما يتحوّل إلى مسلّمة يقبل بها العالم بصفتها قدرا لا مناص منه. تمسكت واشنطن وحلفاؤها بموقف واحد يرفض الانخراط بأي ورشة لتمويل إعادة الإعمار أو بأي مشروع لإعادة اللاجئين دون التوصل إلى تسوية سياسية تشارك بها المعارضة تضمن مآلاً مستقرا لسوريا. لقيت دعوات موسكو صدا دوليا تحاول هذه الأيام تقويضه من خلال التسليم بخيار وحيد لا منافس له.
قد يشي الصمت الدولي تجاه المعركة الحالية بأن العالم مواكب، كما واكب سابقا، الخطط الروسية في سوريا منذ سبتمبر 2015. الأمر يبدو وكأنه ضمن المتوقع وربما المطلوب من روسيا. والأمر يبدو أيضا وكأنه شرط من شروط تحول المجتمع الدولي باتجاه الرؤى الروسية. وفيما يندرج الوجود الإيراني في سوريا ضمن المواجهة الكبيرة التي تتطور دوليا ضد إيران (راقب الهجمات النوعية الغامضة التي تستهدف مستودعات الأسلحة التابعة للحشد الشعبي في العراق)، فإن المعارك التي ترعاها روسيا هذه الأيام في سوريا قد تبدو أنها تخدم أهدافا دولية متقاطعة ترمي إلى تقليص حيّز الشراكة التركية في مستقبل سوريا وضبط إيقاعه.
يتضح هنا أن “مخدر” الاتفاق الذي قدمه الأميركيون للأتراك شرق الفرات هدفه السيطرة على التفلت التركي وتأجيل انفعالات أنقرة إلى أجل تتغير فيه حسابات الحقل وتفرض على أردوغان محاصيل أخرى. غير أن اللافت أيضا أن موسكو التي تنظر بعين الغضب إلى الاتفاق المجهول بين واشنطن وأنقرة حول شرق الفرات، وتنظر بعين شاكية إلى استمرار الوجود الأميركي في سوريا والذي قد يتطور حجمه ويتمدد انتشاره، تعلن للأميركيين قبل الأتراك بمناسبة معركة خان شيخون أنه باتت لها قوات برية تعمل على الأرض على النحو الذي يظهِّر واجهة أخرى للصراع ترفعه نحو ثنائية روسية أميركية سيجد اللاعبون الإقليميون والمحليون أنهم يقفون وراءها.