تقول أوساط «المستقبل»: نستغرب لماذا يسخِّر بعض شركائنا في السلطة كل طاقاتهم ليعرفوا إذا كان الحريري عقد «صفقة سياسية» مع الأميركيين أو قدَّم تعهدات في الملفات الاستراتيجية المتعلقة بالمقاومة وإسرائيل.
وتضيف: يبدو أنّ شركاءنا يعيشون حالة انفصام في التعامل مع الحريري. فمن جهةٍ، يرجون منه القيام بـ»وساطة» لإنقاذ البلد من الأسوأ الآتي مالياً واقتصادياً... والدفاع عنهم في مواجهة العقوبات التي تتشدَّد بها الولايات المتحدة، ويجزمون بأنهم يثقون فيه تمام الثقة.
ومن جهة مقابلة، يتَّهمونه بمسايرة السياسة الأميركية الهادفة إلى تعطيل دور «حزب الله» في القرار اللبناني، والرضوخ لمسار التسوية الذي يقترحه الأميركيون، والذي يبدأ بمفاوضات حدودية مع إسرائيل وينتهي بترتيبات أبعد من ذلك.
وحتى الموافقة على القرار 1701 الذي حظي يوم إقراره عام 2006 بتأييد «حزب الله»، يعتبرها الشركاء خيانةً للمقاومة. وحتى موقف الحريري في ملف النازحين يطرحون شكوكاً حوله. فليذهبوا إذاً إلى واشنطن وسائر المحافل الدولية و»يقلِّعوا شوكهم» بأيديهم.
أو ليقرّروا: هل يثقون بالحريري أو لا يثقون؟ وعندئذٍ، يمكن أن نبني على الشيء مقتضاه… فلا يمكن أن نقبل بعد اليوم أن نقدِّم لهم «فحص دم» في كل مرّة. ولن نقبل أن يتّهمونا بالعمالة ساعة يشاؤون، ثم يطلبون مِنّا التوسّط لإنقاذهم من الورطة!
هذا الكلام، المرتفع السقف، للأوساط «المستقبلية» لا يأتي من عدم، بل إنه الجزء الذي طفح به الكيل، والذي كان مختبئاً خلال أزمة الـ40 يوماً التي اعتكف فيها الحريري. وهذه الأزمة لم تكن لتنتهي لولا التدخل الأميركي المباشر ببيان السفارة وشعور الجميع بالخوف الآتي من خفض التصنيف السيادي، بعد أيام.
الكلام الذي كان مختبِئاً داخل بعض الغرف المقفلة، آنذاك، مفاده أنّ «حزب الله» اتّخذ قراراً بإحكام سيطرته تماماً على الساحة اللبنانية، وإقصاء القوى المناوئة له (الحريري وجنبلاط وجعجع)، وتعطيل دورها، لئلّا تستخدمها واشنطن لإضعاف نفوذه، في المواجهة الساخنة مع إيران.
وتردَّدَ أنّ «الحزب» قرَّر فعلاً وضع الحريري على صفيحٍ ساخن. وهذا ما يضطره إلى حسم أمره: إما الرضوخ التامّ وفكّ ارتباطه بجنبلاط وجعجع وإما الرحيل عن السراي.
وبدأت الأوساط القريبة من «الحزب» آنذاك تسرِّب أنّ هناك أسماء جاهزة لتولّي رئاسة الحكومة، إذا أصرّ الحريري على استمرار الاعتكاف، والغالبية النيابية جاهزة لها. وجرت تسمية عدد من الأسماء.
وفق هذه «الأجندة»، وُجّهت «ضربة» إلى جنبلاط وهُدِّد جعجع بالعزل. لكنّ الحريري تضامن مع جنبلاط وعلّق أعمال مجلس الوزراء، كسباً للوقت، ولأنّ هذا الفريق لم يكن قادراً على الصمود طويلاً، جاء بيان الدعم الأميركي ليعيد التوازن إلى الساحة، مرحلياً على الأقل.
في هذا الخضم، سُمِعَ كلام آخر أكثر خبثاً: لم تَعُد في البلد موارد تكفي ليتقاسمها أركان صفقة 2016، فهو على شفير الإفلاس. وبما أنّ «القلّة تولِّد النقار»، فإنّ بعض أركان الصفقة يفضّلون إقصاءَ الشريك المناوئ لهم سياسياً (الحريري) واستبداله بآخر لا يُقاسِمُهم الحصص، ولا سيما تلك التي يمكن أن تأتي من «سيدر»، وهي أيضاً محدودة… إذا وصلت.
ويجد «التيار الوطني الحرّ» سبباً آخر يدفعه إلى أن يقتنع بإقصاء الحريري، بعد التصاقه بجنبلاط خلال الأزمة. فـ»التيار» أزعجه خروج الحريري من «بيت الطاعة» وتعطيله مجلس الوزراء دعماً للحليف السياسي، فيما كان هو في أمسّ الحاجة إليه. وفي تقديره أن لا فائدة من التمسّك بالحريري إذا كان سيغيِّر تموضعه ويصبح «مشاغباً» أو «متعِباً» لرئيس الجمهورية في السلطة.
الآن، عاد الحريري إلى لبنان. وتدريجاً ستتّضح مفاعيل زيارته الأميركية، سواء بالنسبة إلى التوازنات السياسية في الداخل أو بالنسبة إلى الموقف من إسرائيل والمفاوضات والقرار 1701 والمقاومة.
ويقول بعض القريبين: يتوجّس البعض من أن يكون رئيس الحكومة قد تلقّى دعماً أميركياً لموقعه السياسي. ولكن، ألا تحظى القوى الأخرى كلها بدعم خارجي لمواقعها؟
ويتوجّسون من أن يكون الحريري قد ألزم نفسَه والبلد بتعهّدات سياسية أمام الأميركيين. ولكن، ماذا عن الأوامر الصريحة التي تصدر من «مزارع» إقليمية إلى هؤلاء في لبنان، فينفّذونها بلا تردُّد؟
قد يكون الحريري تعرّض خلال أزمة الـ40 يوماً لمحاولة إقصاء جدّية أو لعملية تخويف بالإقصاء أو لرسائل تمهّد للإقصاء. ولكن، بعد عودته من واشنطن، مباشرة إلى أزمة التصنيف الخانقة، لن تتكرَّر المحاولة… إلى حين.
وفي أيّ حال، سيدافع الحريري عن نفسه. ففي بيروت هو ليس نفسه في واشنطن. وتعليقاً، يبتسم أحد المطّلعين ويقول: لا تخافوا من الحريري، ولا تخافوا عليه. إنه يتقن جيداً درس «الواقعية».