ليس غريبا أن تكون هناك علاقة بين السياسة والتجارة حينما تصبان في خدمة المواطن، ولكن في العراق دخل صغار التجار والمقاولين عالم السياسة بعيدا عن قضايا الناس. حصل هذا عند بعض السنة ممن ملأوا الفراغ السياسي لمعادلة المحاصصة الطائفية، وكذلك لدى السياسيين من الشيعة حيث وجدوا في هذا العالم صنوفا من الإغراءات المادية والمعنوية على حساب مصالح وحقوق المواطنين، وانحدرت السياسة في العراق إلى أرذل فنون التجارة، وهي الكذب على الناس واستغلالهم وسرقة مالهم العام وحقوقهم.
وأصبح على من يريد الحصول على موقع نيابي أن يستحضر المال بطرق رخيصة ليسترجعه أضعافا في ما بعد. هذه الحالة السيّئة يتشارك فيها من يدعون السياسة من الشيعة والسنة. بعض الشيعة وجدوا في تراث الأئمة الصالحين كنزا لا ينضب لخداع جمهورهم طالما هناك بسطاء من الناس يمكن اللعب بعقولهم، أما في الوسط العربي السني فقد استخدمت مسألة الاضطهاد والظلم الذي تعرض له هذا المكوّن بعد عام 2003 لأغراض الكسب السياسي دون أن يتحقق مردود حقيقي للناس.
وكانت السياسات الطائفية للأحزاب الشيعية الحاكمة سببا في ردود أفعال طائفية أيضا من العرب السنة وفتحت الأبواب الخارجية لما سمّي “نصرة الطائفة في العراق”، وقد آذى أغلبها العرب السنة أنفسهم بمشاريع سياسية ضيقة تم تشجيعها بطرق متعددة من بعض العرّابين الشيعة وبدفع خفي مدروس من طهران لكي تبقي حالة التأجيج الطائفي مستمرة بين العراقيين لقاء المال الذي دخل جيوب بعض الزعامات الهزيلة من السنة. وظلت هذه اللعبة مستمرة بأشكال ومظاهر متعددة، وتم التضييق على أي محاولة سياسية وطنية مضادة للطائفية سواء كانت من داخل الأوساط العربية السنية أو الشيعية، لأن المال لعب دوره في الدورات الانتخابية الهزيلة والمعيبة على العراقيين الذين ألبسوا ثوب تلك الانتخابات.
كان الهدف الكبير منع قيام نظام سياسي متماسك ودولة عراقية مدنّية جديدة تخدم العراقيين وتنقلهم إلى وضع متقدم في الحياة. ألم تكن قصة المظلومية الشيعية مجالا رحبا للتدخلات الخارجية الإقليمية والدولية في العراق التي أوصلت الحال إلى الاحتلال العسكري الأميركي وإزاحة النظام السابق. ولو تحقق العدل من قبل الحكم الجديد بعد عام 2003 لما توفرت مناخات التصعيد الطائفي المتبادل، والتي كانت نتائجها الطبيعية انسحاق الضعيف المظلوم أمام القوي المتجبّر الحاكم، والقصة ذات فصول طويلة ومحزنة لا تمتّ بصلة لحقوق هذا المكون الذي وجد نفسه بعد الاحتلال الأميركي مستهدفا بالموت والتشريد ومطاردا بتهم الإرهاب وهو بريء منها. تصاعد ذلك عام 2006 حيث تم تفجير مرقد الإمامين العسكريين بسامراء، ثم دخول المرحلة المدبرة الأخطر خلال مواجهة الاحتلال المدبّر لعصابات داعش للمحافظات العربية السنية عام 2014 وما بعدها، والتي قدمت الخدمة الذهبية للمشروع الطائفي الشيعي والسني لكي تستكمل نظرية الإسلام السياسي في العراق (القيادة والسلطة للإسلاميين الشيعة والمباركة من الإسلاميين السنة).
لم تمت اللعبة الطائفية حتى وإن وجدنا عناوينها غائبة في الحملات الانتخابية الأخيرة عام 2018 التي أنتجت حكومة عادل عبدالمهدي وفق توافق الكتلتين الشيعيتين الكبيرتين وولاء الكتل السنيّة التي انضمت إليهما شكليا. وظلت الأزمات الكبيرة مدفونة تحت رمال غير مستقرة بسبب عدم إنهاء مسبباتها وتجددها لعدم حسم مخلفات الحرب على داعش، وأهمها عدم قدرة غالبية أهالي المحافظات العربية المحررة، نينوى وصلاح الدين والأنبار وديالى وجزء من كركوك، من العودة إلى ديارهم، ومن عادوا تعرضوا إلى الكثير من الإهانات والابتزاز على حقوقهم في الأراضي والسكن والمعيشة من قبل جهات غير حكومية معروفة.
لم تتمكن حكومتا حيدر العبادي وعادل عبدالمهدي من حل هذه الأزمة الإنسانية، والأخطر من ذلك عدم إنهاء ملفات أكثر من 12 ألف مغيّب ومعتقل حسب تصريحات مفوضية حقوق الإنسان العراقية في مناطق جرف الصخر وديالى وصلاح الدين والأنبار وجزء من حزام بغداد رغم أن الحرب على داعش انتهت منذ نهاية عام 2017، وهي القضية التي تتفجر هذه الأيام بعد الإظهار السيء لجثث المواطنين المغدورين بشكل أقل ما يقال عنه إنه حلقة من مسلسل إهانة كرامة العراقيين مهما كانت انتماءاتهم الطائفية وطمس للحقيقة الكاملة المتعلقة بقتلهم. فجأة ظهرت قصة الجثث ما يعيد استحضار هذا الملف المغيّب لأكثر من أربع سنوات، وحسب وصف المرصد العراقي لحقوق الإنسان بأن “هذه الجثث تُثير الشكوك حول جرائم حرب أو عمليات إبادة جماعية قامت بها جماعات إرهابية في مناطق جنوب بغداد”. هذا الفتيل الذي اشتعل الأسبوع الماضي رافقته موجة تصريحات بعض السياسيين السنّة التي تعيد للذاكرة تعاطيهم بورقتهم القديمة في البكاء الخطابي على أهل ملّتهم بذات الأساليب الرتيبة التي كانوا يقدمونها سابقا لأوساطهم من أجل أهداف سياسية وانتخابية ضيقة لا صلة لها بمصالح أهل السنة المظلومين المسحوقين.
ردود الفعل السياسية تشير إلى استخدام سياسي رخيص لقضية إنسانية تتعلق بأرواح الناس. هذا الملف يشير إلى حقيقتين مهمّتين: الأولى عجز الحكومات عن إغلاق جانب خطير من الملف الأمني الكبير الذي يتعلق بحقوق الإنسان ويمسّ مصداقية سيطرة الحكومة الأمنية والسياسية أمام هيمنة قوى سياسية مسلحة نافذة تتصرف باستقلالية وتلبي رغبات مشروع التطهير الطائفي الذي وصل إلى مراحل نهائية، وهذا ما يتعارض مع الدستور والقوانين الدولية.
والحقيقة الثانية تكشف سذاجة تعامل بعض السياسيين السنة ومتاجرتهم بأرواح أهلهم ومصالحهم من أجل أهدافهم المصلحية الضيّقة. فقد كانت قضية عودة النازحين إلى ديارهم واحدة من شعارات المزايدة للوصول إلى البرلمان عام 2018، ولو كانوا جادين فلماذا ظلوا صامتين طوال السنوات الماضية رغم تمتعهم بما لا يقل عن 75 مقعدا في البرلمان الحالي. وكان بإمكانهم تحويلها إلى قضية مركزية داخل البرلمان وخارجه وتشريك الرأي العام العراقي بها، والإصرار على وضع الحلول العادلة لها، لكنهم لم يفعلوا ذلك خوفا على ضياع مصالحهم، وبعضهم يعرضها اليوم ويتحمس لها ليس من أجل الوصول إلى حلول لهذا الملف وغيره، وإنما يتعاملون مع ظهور جثث بعض المغدورين ويستخدمونها كورقة لانتخابات مجالس المحافظات المقبلة.
في المقابل فإن هذا الملف هو مسؤولية البرلمان والحكومة، وعلى رئيس البرلمان المبادرة إلى تشكيل لجنة رئيسية لمتابعة الحقائق وإظهارها لذوي المغيّبين والمختطفين وللرأي العام، والوصول إلى حقيقة مصيرهم، وكذلك ينبغي على رئيس الحكومة أن يمسك هذا الملف الإنساني إلى جانب ملف النازحين ويضع له أولوية كبيرة باعتباره المسؤول الأول عن أرواح المواطنين وأمنهم ويبعده عن المتاجرة السياسية الفاسدة، وأن يتصرف بقيادية وحسم أمام الشعب العراقي، وهو قادر على ذلك بعيدا عن سياسة المداراة للأحزاب والقوى النافذة.
كما أن هذا الملف يتعلق بالأمن الوطني وبحقوق الإنسان أمام المنظمات الدولية والإنسانية التي قد تفتحه مرة أخرى وقد تطالب بزيارة مراكز حفظ الجثامين في المستشفيات وفتح أبواب السجون السرّية وإعلان مصير المختطفين والمحتجزين الذين ينتظر أهلهم معرفة مصيرهم. أما بعض السياسيين السنة ومتعاطي الفساد الذين فشلوا أمام جمهورهم فعليهم الابتعاد عن هذه المتاجرة الرخيصة بأرواح الناس، وأن يقبلوا بما كسبوه ويعودوا إلى إنعاش أموالهم بدروب تجارية أخرى نزيهة، غير السياسة، إن استطاعوا ذلك.