مع التوافق التركي- الأميركي على ما يسمى “ممر السلام” أو “المنطقة الآمنة” أو “الحزام الآمن”، والذي يستهدف إخراج أو إبعاد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تتألف أساسا من قوات حماية الشعب الكردية، عن الحدود التركية، لمنع أي اصطدام أو احتكاك بينها وبين القوات التركية، تكون تركيا بصدد طور جديد من أطوار تدخلها العسكري والمباشر، في الصراع السوري بعد عمليتيها العسكريتين؛ درع الفرات عام 2016 في ريف حلب، وغصن الزيتون في عفرين عام 2018.
وما يفترض ملاحظته في خصوص فرض نفوذ تركيا، على امتداد حدودها الجنوبية مع سوريا، أن هذا الأمر يتم، أولا، بالتفاهم مع الولايات المتحدة. وثانيا أنه يحصل من خارج التفاهمات مع ثلاثي تحالف أستانة، الذي يشمل تركيا وروسيا وإيران. وثالثا أنه يجري على حساب الطرف الكردي (قسد) في الصراع السوري.
مفهوم أن تركيا تتوخى من خلال مد نفوذها في تلك المنطقة، تحقيق عدة أهداف. أولها، وضع حد لما تعتبره تهديدا لأمنها القومي، باعتبارها قوات قسد، أو قوات حماية الشعب التركية، التابعة لحزب الاتحاد الوطني الديمقراطي (الكردي السوري) امتدادا لحزب العمال الكردستاني في تركيا، الذي تعتبره تنظيما إرهابيا وخارجا عن القانون، ويهدد وحدة الأراضي التركية.
ثانيا ترى تركيا أن إيجاد تلك المنطقة يعزز من قدرتها على تحجيم الطموحات الكردية الرامية إلى إيجاد نوع من كيان مستقل، قد يمتد بطموحاته إلى تركيا ذاتها (وقد شهدنا موقفها من محاولة كردستان العراق الاستقلال)، وتاليا منع أي تواصل بين التجمعات الكردية في المثلث العراقي السوري التركي.
ثالثا، تعتبر تركيا أن تعزيز نفوذها في تلك المنطقة من شأنه تقوية مكانتها أو حماية مصالحها، في أيّ مقاربات دولية بخصوص سوريا في المستقبل، وإزاء الأطراف الأخرى (الولايات المتحدة وروسيا وإيران وإسرائيل).
رابعا، تحاول تركيا من خلال ذلك، ولاسيما بالتفاهم مع الولايات المتحدة، تعزيز مكانتها الدولية في مساومة الأطراف الأخرى (أميركا، وروسيا، وإيران، وأوروبا) في ملفات أخرى، مثل علاقتها مع أوروبا، والتنقيب عن الغاز في المتوسط (ولاسيما قرب قبرص)، وحقها في عقد صفقات تسلح (على غرار الصفقة مع روسيا بمنظومة الدفاع الجوي)، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
الجدير بالذكر أن الانخراط أو الاستثمار التركي الفاعل في الصراع السوري له أوجه عديدة، بمعنى أنه لا يقتصر على البعد العسكري، فإلى جانب الانخراط السياسي بدعم المعارضة بمختلف الأشكال، ثمة قضية اللاجئين السوريين، إذ يدور الحديث عن أكبر دولة مستقبلة أو مضيفة، للاجئين السوريين، مع وجود حوالي أربعة ملايين سوري على أراضيها، علما أنها تحاول الاستثمار في هذا الملف باتجاهات عديدة، وضمن ذلك فتح المجال لتدفقهم على أوروبا، كما حصل في سنوات سابقة.
أيضا، فإن تركيا تستضيف، أو تؤمن التسهيلات اللوجستية للمعارضة، السياسية والمدنية والعسكرية، أي أن نفوذها يطال الجانبين، الشعبي والسياسي، عند السوريين. فوق هذا وذاك فإن أهمية تركيا تنبع من امتلاكها أطول حدود مع سوريا، بين دول الجوار، وهذا أمر لا يمكن تجاهله، في أيّ ترتيبات مستقبلية لتحقيق الاستقرار في سوريا.
بيد أن أوجه الاستثمار التركي في الصراع السوري، سياسيا وأمنيا واقتصاديا وبشريا، اعترته العديد من المشكلات، من ضمنها أن تركيا لم تشتغل بدعم الثورة السورية على غرار الدعم الإيراني للنظام. ثانيا، أن دعمها للمعارضة تركز تحديدا على كيانات سياسية وعسكرية ذات خلفية أيديولوجية محددة، على حساب الكيانات ذات الطبيعة الوطنية الديمقراطية، وهو ما أضر بثورة السوريين، وبصورة تركيا. ثالثا، لم يكن من المفهوم دخول تركيا في علاقة تحالف مع شريكي النظام؛ أي روسيا وإيران، وهو ما تمثل في قيام التحالف الثلاثي؛ روسيا وإيران وتركيا، وابتداع مفاوضات أستانة ومؤتمر سوتشي خلال عامي 2017 و2019، مع كل ما جره ذلك التحالف من تدعيم للنظام وإضعاف للمعارضة، ومن ضمن ذلك شعور روسيا بأن يدها مطلقة في قصف السوريين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، كما يحصل في إدلب وريفها وريف حماة منذ ثلاثة أشهر، رابعا تعاطت تركيا مع الملف الكردي في سوريا وكأنه بمثابة امتداد للملف الكردي في أراضيها، الأمر الذي كان يمكن تلافيه بما يخدم مصالح الثورة السورية، ووحدة الشعب السوري، ومن دون خلق مشكلة كردية في سوريا.
على أيّ حال، فإن الدور التركي في سوريا، سيبقى مرهونا بتوافقاتها مع الطرفين الدوليين الكبيرين والمقررين، أي الولايات المتحدة وروسيا، مع تأكيد أهمية أو أولوية التفاهم التركي- الأميركي.
مع ذلك ففي موضوع مد نفوذ تركيا إلى الداخل السوري، على امتداد الحدود المشتركة، ثمة اختلافات أميركية- تركية كبيرة، إذ أن التوافق مثلا على تسمية “ممر السلام”، لا يغطي على اعتبار الولايات المتحدة تلك المنطقة كحزام آمن، أي لمنع أي اشتباك كردي- تركي، وفي المقابل فهو لا يغطي، أيضا، على اعتبار تركيا تلك المنطقة، من منظورها، كمنطقة آمنة.
وعلى العموم فإن الولايات المتحدة تشتغل على إيجاد توافقات بين حليفيها، الكردي والتركي، من خلال إيجاد تفاهمات أو مفاوضات غير مباشرة بينهما، تحت رعايتها وكفالتها وضمانتها، وبوجود طواقم عمل سياسية وعسكرية وفنية، ولاسيما أنها ستتموضع على الأرض في قواعد ثابتة أو في نقاط مراقبة، على امتداد الحدود التركية- السورية، سواء كان عمق تلك المنطقة 10 كيلومترات كما تريد الولايات المتحدة، أو 30 كيلومترا كما تريد تركيا، إذ أن الوجود الأميركي كما بينت التجربة، مهما كان، كفيل بتحقيق الطمأنينة للطرفين والتخفيف من مخاوفهما المتبادلة.
السؤال الآن، هل أن الوجود الأميركي المباشر في الصراع السوري، عبر غرفة تنسيق العمليات الأميركية- التركية، ونقاط المراقبة على امتداد الحدود التركية- السورية، والقواعد الأميركية في شرقي الفرات، يمكن أن يفتح المجال أمام تحالف تركي- أميركي، يشكل بديلا لتحالف أستانة؟ والسؤال الأهم هل هذا التواجد الأميركي النشيط في تلك المنطقة له أبعاد أخرى، أكثر من كونه بمثابة حزام لمنع احتكاك بين طرفين صديقين، أو هل هو مجرد بداية لما هو بعدها؟