عدن اليوم هي ليست عدن التي غُلبت بالوحدة عام 1990. كانت الوحدة خطأ تاريخيا دفع ثمنه أبناء الجنوب، فيما نظر إليه الشماليون باعتباره انتصارا.
رفع المتظاهرون المؤيدون للمجلس الانتقالي أعلام جمهورية جنوب اليمن الديمقراطية. تلك الأعلام التي تذكرهم بالاستقلال الحقيقي وبالدولة الحقيقية التي سعوا إلى بنائها لتكون جزءا من العالم الحي والمتحضر.
بعد حوالي ثلاثين سنة لم يكن هناك ما يقنع بجدوى الوحدة. فهي لم تغير من طباع الشماليين وفي المقابل لم تحسن من أحوال الجنوبيين الذين اعتبروا في ما بعد طرفا خاسرا ومهزوما.
أما بعد 2014 حين احتل الحوثيون صنعاء، وصار على عدن أن تتحمل عبء صفتها عاصمة مؤقتة لليمن، فقد بانت الأمور على حقيقتها بل ظهر الجانب المظلم من تلك الحقيقة.
لقد سبق ليمنيي الجنوب أن حذروا من خلال حراكهم الذي بدأ منذ سنوات من مغبة استرسال دولة الوحدة في سياساتها التهميشية والانعزالية والقبلية والسادرة في غيها السلطوي. وهو ما كان الكثيرون ينظرون إليه باعتباره نوعا من الدعوة إلى الانفصال الذي يغلّب المصالح الضيقة على مصلحة الشعب اليمني.
كانت هناك محاولة لطمس الصوت الجنوبي وحصره ضمن إطار أقلوية جهوية وحزبية ترغب في إيقاف عقارب الساعة والعودة بالزمن إلى الوراء. وهو ما لم يكن مقنعا على المستوى النظري. لذلك فقد عانى الجنوبيون من سوء فهم دفع بقضيتهم إلى موقع الإهمال.
ما لم يفهمه الكثيرون أن الجنوبيين الذين ضحوا بدولتهم المستقلة ومستوى حياتهم المتقدم من أجل الوحدة، صاروا يعضون أصابعهم ندما على ما فعلوه، بعد أن فقدوا حرية الحركة في شرح قضيتهم.
وهم حين رحبوا بأن تكون مدينتهم عدن عاصمة لما سمي بـ”الشرعية”، فقد كانوا يأملون في أن تنقلب تلك “الشرعية” على نفسها لتعترف بالأخطاء التي ارتكبتها وأدى تراكمها إلى ما انتهى إليه الوضع في اليمن من مأساة لا يمكن التنبؤ بفصولها القادمة. غير أن شيئا من ذلك لم يقع.
العكس تماما هو ما وقع. فـ”الشرعية” التي استقرت مؤسساتها في عدن كانت تُدار عن بعد ولم تكن تلك المؤسسات معنية بالمدينة التي استضافتها إلا على مستوى ما حصلت عليه من ضمانات أمان، سمح لها بأن تعقد صفقات مريبة مع أطراف تعمل من أجل إدامة الحرب من أجل استمرار رخائها على حساب الشعب الذي ساءت أوضاعه المعيشية وضعف أمله في المستقبل.
كان الرئيس الشرعي وحكومته المعترف بها دوليا يصران على الإقامة في الرياض، فيما كانت مؤسساتهما تتعامل مع عدن باعتبارها مدينة محتلة. لقد أعاد ذلك السلوك النفعي والاستعلائي والمغرور فتح الجرح الذي سببته الوحدة للجنوبيين عبر ثلاثة عقود من زمن اليأس. ولم يكن المجلس الانتقالي الجنوبي ليتشكل لولا عمق وقوة الألم.
فالجنوبيون الذين لم يكتفوا بالدفاع عن مدينتهم وتحريرها بل ذهبوا إلى مختلف جبهات القتال ليدافعوا عن اليمن الموحّد، كانت حصتهم من احتضانهم للشرعية مؤسسات تنظر إليهم باستعلاء ولا تثق بهم، بل وتسعى إلى فرض صفقاتها المريبة مع جهات معادية مثل حزب الإصلاح الإخواني باعتبارها حلا نضاليا.
ولهذا فقد كان طرد “الشرعية المزيفة” من أجل إقامة شرعية حقيقية ضروريا وخطوة صائبة على طريق التحرر من نفاق الوحدة الذي استلب الجنوبيين وجعلهم يدورون في دروب متاهة لم تكن ذات صلة بمصائرهم لو أنهم حافظوا على شيء من حريتهم.
عدن اليوم حرة. يدير مؤسساتها المجلس الانتقالي الجنوبي. أما “الشرعية” فإنها ستكون عاجزة عن تفسير رغبتها في استعادة مُلك لم تحافظ عليه.