مع نهايات الحروب، أو اقترابها من النهايات، يأتي زمن قطف الثمار. لا يذكر التاريخ مشاركات مجانية في الحروب، ولا جيوشاً تتبرع بالقتال خارج حدودها من دون مقابل. وسوريا، الساحة المفتوحة للجيوش ولكل أنواع التدخلات، توفر فرصاً كثيرة لكثيرين للاستثمار فيها. لائحة طويلة، من دول صغرى وكبرى، إقليمية ودولية، غمست أصابعها في الجرح السوري النازف، والشراكات قائمة حول مائدة حصاد الغلال. شراكة تركية - روسية - إيرانية، تحت عنوان «الدول الضامنة»، من دون أن يوضح أحد ماذا تضمن الدول الثلاث في سوريا، باستثناء مصالحها المختلفة في بعض المحطات، المتفقة دائماً على أن المسرح السوري مجال مقبول لتصفية حسابات كل طرف بالطريقة التي تخدم مصالحه.
رجب طيب إردوغان، رئيس تركيا الذي رفع الصوت منذ بداية الحرب السورية زاعماً الدفاع عن مصالح السوريين في مواجهة نظام بشار الأسد، هو اليوم بين السابقين إلى قطف ثمار هذه الحرب، إن لم يكن على رأسهم. إردوغان الذي لم يقصّر في خطب ودّ المعارضة هو الآن المتفرج الأول على سحق هذه المعارضة على أبواب خان شيخون، حيث يلعب حلفاؤه الروس الدور الأكبر في العمليات العسكرية هناك، وذلك تمهيداً لإبعاد المعارضة عن موقعها الأخير في إدلب، هذه المنطقة التي تحولت إلى خزان بشري كبير تجمع فيه كل معارضي النظام السوري، من الذين لم ينتزعهم الموت من المجزرة الكبرى، ولم تبتلعهم البحار في طريقهم إلى أي مأوى آمن.
إردوغان اليوم مهتم بمسألة أخرى، هي مصير المنطقة الحدودية في شمال شرقي سوريا، مع أنها منطقة لا يفترض أن تثير القلق، لأنها أبعد ما يكون عن مناطق النزاع المحتدمة في سوريا. لكن من «سوء حظ» أهل هذه المنطقة أنهم أكراد، وبالتالي يثيرون قلق إردوغان بسبب مجاورتهم لحدود بلاده، ويتهمهم بأنهم موالون لـ«حزب العمال الكردستاني» الذي تعده تركيا تنظيماً إرهابياً. من هنا نشأ المشروع الذي يطلق عليه الأتراك اسم «المنطقة الآمنة»، في محاولة لفتح المجال أمام جيشهم للتدخل فيها، وإقامة منطقة داخل الأراضي السورية، يمكن أن يصل عمقها إلى 30 كلم، وتجري مفاوضات حالياً بين تركيا والولايات المتحدة، بوصفها «حليفة» لـ«وحدات حماية الشعب» ذات الأكثرية الكردية، التي تسيطر على هذه المنطقة الحدودية التي تضم مدناً كبرى قاتلت القوات الكردية للدفاع عنها في وجه تنظيم «داعش» وجيش النظام السوري، ومن بينها كوباني (عين العرب) والقامشلي والحسكة.
في محاولته للضغط على الإدارة الأميركية للقبول بخطة المنطقة الآمنة، هدد إردوغان بشن هجوم على هذه المنطقة للسيطرة عليها بالقوة، وقال: «لا نستطيع أن نبقى ساكتين، ولن نصبر أكثر من ذلك. لقد دخلنا إلى عفرين وجرابلس والباب، وسندخل إلى مناطق شرق الفرات»، وأكد أنه أبلغ واشنطن وموسكو بقراره هذا.
ولن يكون التدخل التركي في شرق الفرات إذا حصل الأول، فقد قام الجيش التركي بعمليتين في المناطق الحدودية مع سوريا: العملية الأولى التي سماها «درع الفرات» في أعزاز سنة 2016، والثانية «غصن الزيتون» في عفرين في العام الماضي.
ومع أن الرئيس دونالد ترمب سبق أن وعد إردوغان بالموافقة على هذه المنطقة منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فإن المفاوضات تعثرت بسبب تضارب مصالح البلدين من الملف السوري، خصوصاً بعد التقارب التركي - الروسي الذي كانت منظومة الدفاع الجوي من صواريخ «إس 400» الروسية من أبرز تجلياته، فضلاً عن التنسيق التركي - الإيراني الذي يثير قلق واشنطن من هذا التقارب مع طهران من قبل عضو بارز في الحلف الأطلسي.
وهناك طبعاً الخلاف في نظرة البلدين إلى الهدف من إقامة المنطقة الآمنة؛ واشنطن تريد حماية مشتركة أميركية - تركية لها، وتعد أن الهدف من إقامتها هو حماية «قوات سوريا الديمقراطية» و«وحدات حماية الشعب» من هجمات الجيش التركي، أما أنقرة فتعد على العكس أن الهدف هو منع هذه القوات من الوجود فيها، وجعلها «ممر سلام»، كما تسميه، لعودة اللاجئين السوريين الذين باتت تركيا تشكو من وجودهم، بعدما كانت قد أعلنت أن أبوابها مفتوحة أمامهم.
هناك طبعاً مشروع تركي واضح بشأن «المنطقة الآمنة»، ولا يوجد مشروع أميركي مماثل، ولا استراتيجية أميركية واضحة بشأن هذه المنطقة، كما بخصوص الوضع السوري عموماً. مشروع إردوغان يلعب على الحساسيات التركية التقليدية حيال الأكراد، ويحاول توظيفها. أما واشنطن فليست مهتمة بالمسألة الكردية سلباً أو إيجاباً، بل تهتم بأمرين: مواجهة تنظيم «داعش» الذي كانت «الوحدات» الكردية فاعلة في مواجهته، ومواجهة الوجود الإيراني في سوريا، وتعد واشنطن أن أنقرة لا تشكل ضمانة كافية في هذه المواجهة، فيما التحالف مع «قوات سوريا الديمقراطية» هو أضمن؛ كما أن هذه القوات في نظر الأميركيين منظمة وفاعلة عسكرياً.
«ممر السلام» أو «المنطقة الآمنة» يستفيد منها إردوغان داخلياً بعد إخفاقاته الأخيرة، وأبرزها خسارة معركة رئاسة بلدية إسطنبول. فالوضع الاقتصادي المتدهور بدأ يثير قلق الأتراك حيال حجم اللجوء السوري الذي تجاوز 3 ملايين ونصف المليون لاجئ. إقامة المنطقة المسماة «آمنة» توفر فرصتين لإردوغان: إبعاد اللاجئين السوريين عن الأرض التركية، وإحداث تغيير ديموغرافي في المناطق الحدودية، على حساب الأكثرية الكردية المقيمة فيها.
مرحلة استثمار مهمة هي المرحلة المتاحة الآن لإردوغان من تدخله في النزاع السوري. وما يحتاج إلى متابعة هو مدى قدرة الولايات المتحدة على كبح مشروع الرئيس التركي، والحفاظ على مصالح حلفائها الذين أثبتوا فعاليتهم في قتال تنظيم «داعش» الإرهابي، وفي توفير حد أدنى من الأمن في مناطق سيطرتهم.
أما رد فعل نظام دمشق الرافض للمنطقة الآمنة فهو آخر ما يمكن التوقف عنده من مواقف، لأنه أقل الأصوات تأثيراً في المشهد السوري.