بعد غياب فرص الحل التفاوضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، واختفاء مصطلح حل الدولتين، ضاعفت إسرائيل من جهودها لفرض حلها أحادي الجانب دون إعلان صريح.
ويقوم هذا الحل على أساس ضمان سيطرة إسرائيل طويلة الأمد على الضفة الغربية وقلبها القدس الكبرى، إضافة إلى ما مساحته 60 في المائة؛ أي الأراضي المصنفة «ج»، وبذلك يكون ما تبقى للفلسطينيين سيطرة نظرية على ما لا يزيد على 25 في المائة من الأرض؛ أي التجمعات السكانية التي تكتظ بها المدن الرئيسية، والتي ستبقى كما هي الآن مجرد جزر محاطة بالمستوطنات ومواقع الجيش الإسرائيلي.
ولتكريس هذا الحل الذي قطعت إسرائيل أشواطاً بعيدة نحو تثبيته، أشهرت السلاح الرديف للقوتين العسكرية والاستيطانية وطورت العمل فيه مؤخراً، والذي يمكن تسميته «سلاح التسهيلات»، الذي يبدأ بمضاعفة عدد تصاريح الزيارة والعمل لمئات آلاف الفلسطينيين، وكذلك زيادة التسهيلات المقدمة لرجال الأعمال والتجار الذين يعتمد عملهم موضوعياً على المساحة التي تسمح بها إسرائيل لحركتهم وتوظيف أموالهم.
هذا ما هو جارٍ الآن، وهو ليس جديداً بأي حال، سوى أن ما يمكن اعتباره جديداً هو تطوير هذه التسهيلات وربطها بالحل السياسي الذي يبشر به أقطاب الدولة العبرية، وأكثرهم وضوحاً في هذا المجال حكومة اليمين بقيادة نتنياهو... وجديد آخر ارتفعت الأصوات بالحديث عنه، ويتمثل في تسهيلات موعودة، مثل دعم البنى التحتية في المناطق، بما في ذلك غزة التي هي صاحبة حصة الأسد في التسهيلات ولكن ضمن معادلة: «اهدأوا وخذوا ما تحتاجون».
أما الضفة فوعودها تراها إسرائيل مجزية ومن النوع الذي لا يُرفض، مثل السماح بالسفر عبر المطارات الإسرائيلية بصورة مفتوحة بعد أن كان السفر يتم بالقطّارة، مع وعود باستحداث وتطوير مناطق صناعية في جميع محافظات الضفة.
ويثور سؤال وجيه: ما وضع السلطة الفلسطينية في هذا السياق؟
هل تتلاشى بحكم تلاشي المبرر السياسي لوجودها «أي الانتقال من الحكم الذاتي إلى الدولة»، أم تبقى كإدارة لشؤون الناس بحيث تواصل العمل تحت أسقف منخفضة دون أي قدر من السيادة الفعلية حتى على المناطق المصنفة «أ».
لا جواب يقينياً الآن عن هذا السؤال؛ ذلك أن وضع السلطة لا يتحدد بقرار ينص على حلها أو إبقائها، وإنما يتحدد بفعل وضعها الذاتي في المجال الاقتصادي، إضافة إلى حجم قدرة العالم القريب والبعيد على دعمها والحفاظ عليها، دون إغفال القدرات الإسرائيلية التي بلغت في حجم تأثيرها على واقع ووظائف السلطة مبلغاً جعل قيادتها تعلن صراحة أنها سلطة بلا سلطة، وأنها تفكر في تسليم مفاتيحها لإسرائيل كي تتحمل مسؤولياتها بوصفها دولة احتلال.
ومع أن كل ما تقدم تجاوز مرحلة النوايا والمخططات وصار واقعاً ملموساً على الأرض، فإن هنالك وجهاً آخر للحقيقة يجعل من الرهانات الإسرائيلية على فرض الحل الأحادي غير مضمونة، بل ستقود إلى فشل محقق، وهناك في إسرائيل كثيرون يؤكدون ذلك.
أصحاب الحل الأحادي الذي تقود تنفيذه فعلياً حكومة اليمين المهيمنة على القرارات في إسرائيل، ينكرون بديهية مجربة ومقررة بشكل حاسم في أمر الحلول التي يمكن أن تعيش؛ إذ مهما بلغت التسهيلات الحياتية ومهما أُنفق عليها تظل عرضة للانهيار ما دامت معزولة عن حل سياسي يُشعر الشعب بأنه لا حاجة للثورة والمقاومة وتقديم التضحيات. وما تعرضه الحكومة الإسرائيلية وما تقدمه من تسهيلات قائمة وموعودة قد يؤثر إيجاباً وبصورة مؤقتة على بعض الأفراد والشرائح، إلا إنه لن يمنع يقظة حتمية للفلسطينيين بفعل النزوع الغريزي نحو الحرية وتجسيد الكيانية الوطنية المستقلة التي وحدها تضمن الكرامة والرضا والحياة الآمنة.
قبل الانتفاضة الأولى كانت الحكومات الإسرائيلية تنام على حرير هدوء شامل في المناطق المحتلة، وكان الفلسطيني يقود سيارته من أقصى نقطة في الجنوب أو الشمال إلى قلب الدولة العبرية دون تصاريح أو حواجز، وكان العمال الفلسطينيون يحصلون على أجور أعلى من أجور نظرائهم في أي مكان... لم تقدّر الحكومات الإسرائيلية أن هذا الهدوء الذي طال بعض الوقت أشبه بغطاء رقيق لهشيم ينتظر عود ثقاب ليشتعل، وهذا ما حدث، والمعالجة السياسية للانتفاضة الأولى كانت مجتزأة ومرتجلة، وتبين أيضاً أنها غير بريئة، وها نحن نرى النتائج، ولا ضرورة لإرهاق أنفسنا في الجدل حول من المسؤول؛ القيادة الفلسطينية التي ذهبت إلى أوسلو وراهنت عليها، أم القيادة الإسرائيلية التي تظاهرت بأنها ذاهبة إلى حل سياسي مع أن كل مبتغاها كان مجرد حلول أمنية وخدماتية لا تغير من الواقع شيئاً؟
إن ما نحن فيه الآن من وضع مرير سببه ذلك التحايل الكارثي لإبعاد الحل السياسي وحتى لإلغائه لمصلحة حل أمني وخدماتي، وإذا ما ظلت المعادلة على حالها، فسيظل الهشيم جاهزاً في انتظار عود الثقاب.