يبدو مسببات فشل حل الأزمة الليبية كثيرة ومتنوعة؛ فمنها التدخل الخارجي والإقليمي، وغياب أي خريطة حل من البعثة الدولية للأمم المتحدة، التي مارست عمليات الترحيل لأماكن الحوار؛ فمن غدامس الليبية، إلى الصخيرات المغربية، مروراً بالعاصمة التونسية، إلى جنيف السويسرية، وباريس وروما... بل واستخدمت البعثة عبر مبعوثيها عملية تفتيت الأزمة وإغراقها في الفرعيات، وتبدل المبعوثون الدوليون، حتى وصلنا إلى الرقم «6» الدكتور غسان سلامة، بينما خطة البعثة تمركزت حول إعادة تكرار دعوة الوجوه والشخوص نفسها تقريباً، بترتيب مختلف، للحوار.
وبالنظر لقائمة الشخوص، يلاحظ أنها تعجّ بالمتسببين في الأزمة بشكل مباشر، كأمراء الحرب، وقادة ميليشيات، وقيادات إخوانية، بل تعج بمتهمين ومسجلين على قوائم الإرهاب في بعض الدول... إلى إعادة إنتاج أعضاء الجماعة (الإخوان) وأحبائهم وأصدقائهم ودمجهم في بعض المعارضين الوطنيين؛ وهم قلة، لاستكمال الصورة النمطية التي لم ولن تنتج حلاً ممكناً قابلاً للعيش أو التطبيق، أو حتى يصلح لأن يكون معالم خريطة طريق للخروج من الأزمة.
ومن أسباب فشل الحل في الحوار الخاص بالأزمة الليبية استبعاد شخصيات وطنية فاعلة؛ سواء ممن شاركوا أو يؤمنون بحراك فبراير (شباط) 2011 غير المسلح، أو حتى من لا يزالون متمسكين بحراك سبتمبر (أيلول) 1969 غير المسلح، من قائمة المدعوين لأي حوار سياسي يخص الأزمة الليبية، مع بقاء من اختار المدعوين للحوار مجهول الهوية، حتى ولو كانت الدعوة مقدمة من قِبل الأمم المتحدة التي كثيراً ما تنصلت من قائمة المدعوين. وإضافة إلى أن من اختار المدعوين للحوار مجهول الهوية، فهو من الواضح أنه طرف لم يكن بالمطلق يسعى لحلحلة الأزمة، بل كان يخلط الأوراق لاستمرار الصراع وإنعاشه بإعادة إنتاج هذه الشخصيات الجدلية ضمن جوقة عبث يسميها «لجنة حوار» ظهر من بينها قيادات إخوانية بصفة مستقلين.
حوار جنيف مثلاً كان بشخصيات جدلية بعضها متهم بالإرهاب، بل وصدرت ضدهم مذكرات ملاحقة دولية، ودعوة هؤلاء للحوار تشبه ما قامت به قطر من استضافة قيادات «طالبان» التابعة لتنظيم «القاعدة» للحوار مع النشطاء المدنيين، فكان مجرد «حرث في البحر لم ينبت حتى الزبد».
من الواضح في الأزمة الليبية أن كثيرين من الأطراف المحلية والإقليمية والدولية يسعون إلى استمرارها، وأنه يمكن حلها بإبعاد هذه الشخصيات الجدلية، ودعوة جادة للنشطاء الوطنيين ومشايخ القبائل وأساتذة الجامعات والمجتمع المدني، إلى مؤتمر ليبي - ليبي جامع لا يحمل أي رؤى أو أجندات خارجية ولا مؤدلجة، مثل التي تحملها جماعات الإسلام السياسي من «إخوان» و«قاعدة»، ومن ثم الدعوة إلى انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة بشكل مباشر، وإلا فسنصبح في دوران مستمر وترحيل للأزمة وإطالة عمرها، ما دامت الدول ذات المصلحة سباقة في إعادة إنتاج هذه الشخصيات وفرضها ضمن قائمة أي حوار ليبي، في حين هي شخصيات لا تمثل الليبيين؛ بل جميعها لا تؤمن بجغرافيا الدولة الوطنية ولا بحقوق المواطنة للجميع.
اتفاقات كثيرة حدثت على خريطة الحل السياسي للأزمة الليبية، ولكن جميعها فشلت، لأنها كانت مبنية على «جُرُفٍ هارٍ»؛ أي على حافة منهارة لا تصمد، وهي ليست اتفاقاً ولا حتى توافقاً بين الجميع، إنما كانت بين البعض من هذا الطرف والبعض من ذاك الطرف، ولم تمثل جميع الأطراف، إنما اختزلتها... ومثالاً على ذلك لم يصمد «اتفاق الصخيرات»، الذي كان برعاية خاصة من الأمم المتحدة وأميركا أوباما وهيلاري كلينتون، فقد فشل ولم ينل حتى شرف «الوفاق» أو «التوافق».
إلا أنه من ناحية أخرى، قد يكون «اتفاق أبوظبي» من أهم محطات الحوار الليبي، ذلك الاتفاق الذي بقي رهين جدية الأطراف في تحقيق شراكة وطنية ووفاق بين الجميع، ممن يؤمنون بالدولة الوطنية وتتجاوز أفكارهم منهج الإقصاء وأخونة الدولة الليبية أو صوملتها أو أفغنتها، ولكن طرف حكومة الوفاق فضل البقاء حبيساً لابتزاز الميليشيات له، متأثراً بـ«متلازمة استوكهولم (التعاطف مع العدو)».
الحل في ليبيا لن يكون إلا عسكرياً، وليبيا لن تكون إلا دولة وطنية مدنية بجيش وطني قوي يحميها، ولن تكون حاضنة للإرهاب أو ولاية للمرشد، فالتركيبة السكانية والاجتماعية القبائلية الليبية لن تسمح بتمرير مشروعٍ ولاؤه خارج حدود الوطن.