بعد أربعين يوماً على حادثة «قبـرشمون»، وبسحر ساحر، تراجع الـمتصارعون عن سقوفهم العالية وقبلوا حلولاً كان يمكن السير بها منذ اللحظة الأولى.
فالمبادرة التـي طرحها رئيس مـجلس النواب نبيه بري منذ بداية الأزمة، والتـي تضمّنت لقاء مصالـحة فـي القصر الـجمهوري وإسقاط الحقّ الشخصي فـي حادثتي «الشويفات» و«قبـرشـمون»، هي التـي إنتصرت، وجعلت الـمصالـحة العشائرية تتـمّ «بلا غالب ولا مغلوب» ظاهرياً، مع تمايز واضح وأرجحيّة لـموقف الزعيـم وليد جنبلاط.
البعض يقول إنّ بـيان السفارة الأميـركية ضغط في اتـجاه الـحلّ، والبعض الآخر يرى أنّ العامل الإقتصادي والمالي أدّى الدور الحاسـم فـي تعجيل المصالحة، فيما يرى آخرون أنّ «حزب الله» كانت له اليد الطولى فـي كبح جـماح المير طلال وتليـيـن شروطه والقبول بالتسوية.
فـي كل حال، ليس الـمهمّ كيف إنتهـت الأزمة، ومن كان له الفضل فـي إنـهائـها، الـمهمّ معالـجة الأسباب التـي أدّت إلى تلك الـمأساة لـمنع تكرارها. فلبنان الـمُنهَك باقتصاده وديونه وعجز ماليته لـم يعد يـحتمل نزوات واستفزازات وتـحدّيات. والناس التـي إنتظرت تسعة أشهر لولادة «حكومة العهد الأولـى» كي تبدأ العمل والإنتاج والإصلاح، خاب ظنها وفقدت ثقتـها بالـمسؤوليـن على كل الـمستويات.
هناك فرصة ثـمينة للعهد لاستعادة ثـقة الناس بوطنهم ومؤسّـساته، وذلك يجعلهم يشعرون أنـهم متساوون فـي الـحقوق والواجبات، ولا تـميـيـز بيـن مواطن وآخر بـحسب إنـتمائه الـحزبـي والطائفـي. فالوظائف العامة فـي الدولة يجب أن تكون مُتاحة لـجميع الـمواطنيـن ذوي الكفاءة، بصرف النظر عن ميولـهم ومعتقداتهم. لقد أتـخم رجال السلطة الإدارة اللبنانية بالأزلام والـمحاسيب، وحان الوقت لإعطاء الأمل للناس بأنّ الكفؤ قادر على الوصول إلى أعلى الـمراكز فـي الدولة من دون «وساطة» الزعيم، ومن دون الإستزلام لأيّ حزب أو تيار.
إنّ الإصلاح الـحقيقي فـي الدولة يبدأ بوضع الشخص الـمناسب فـي الـمكان الـمناسب، لأيّ فئة إنتـمى، وباعتماد آلية واضحة للتعيـيـنات يلتـزمها جـميـع الأفرقاء. فالقاضي أو رجل الأمن أو الإداري، الذي يصل إلى أيّ مركز فـي الدولة من خلال الزعيـم، سيكون فـي نـهاية الـمطاف ولاؤه للزعيـم الذي أوصله، وليس للوطن والـحقّ والقانون.
فـي حفل الإفطار الذي أقامه الرئيس ميشال عون فـي 14 أيار الـماضي، قال فـي خطابه: «هذا الـمواطن اللبنانـي وعلى مرّ السنوات الـماضية، فقد ثقـتـه بدولته ولـم يعد يشعر أنه معنـيّ بـها».
صَدقت يا فخامة الرئيس، إنّ التصرّفات الـملتوية التـي مارسها الزعماء والسياسيون على كل الصّعد، والشّرَه فـي تـجميع الثـروات الطائلة من الـمال العام، جعلت الـمواطن يكفر بدولته ونظامه وبكل الطبقة السياسية، ويـمتنع عن مـمارسة حقّه الإنتخابـي.
تـحوّلت الوظائف العامة فـي الدولة، إحتكارات لزعماء الطوائف والأحزاب، ومـحميّات سياسية ومذهبـية لا يـجوز الـمسّ بـها أو مـحاسبـتـها على أدائـها، ووسيلة ناجحة لإرضاء كل الـمناصريـن من دون حسيب أو رقيب. حتـى القانون رقم 46 الـخاص بسلسلة الرتب والرواتب، لـم يـحتـرمه أحد من الوزراء، ووظّفوا الآلاف من أتباعهم، ولـم نعرف مصيـرهم حتـى اليوم.
إنّ من أوصل الدين إلى 90 مليار دولار هو هذه الطبقة السياسية الفاشلة، وهذه الإدارة الـمهتـرئة والفاسدة التـي تأتـمر بأوامر أسيادها الفاسديـن. ففي غياب الآلية الواضحة لـملء الشواغر فـي الإدارات العامة، وفـي تغيـيـب مؤسّسات الدولة، خصوصاً مـجلس الـخدمة الـمدنية، ستتجدّد الـخلافات بيـن أهل الـحكم، وتعود لغة التـخويـن والشتائـم والتعطيل، إلاّ إذا إعتمدوا كالعادة مبدأ الـمحاصصة التـي قتلت الوطن وجعلت الـمواطن يفقد ثقته بدولته وحكّامه.