يسهل، في خضم المواجهات بين قوات الشرعية اليمنية والمجلس الانتقالي في الجنوب، أن تُقرأ الأزمة في اليمن بالمقلوب من عدة وجوه.
مقارنة “الانفصالية” الجنوبية اليمنية بـ”صومال- لاند”، واحد منها. الأولى ثمرة فشل، كما أن الثانية ثمرة فشل أيضا. وهذا هو مصدر “السهولة”. ولكن لكل منهما تاريخ مختلف. ومن لا يقرأ أي ظاهرة في تاريخها سرعان ما ينتهي إلى قراءة خاطئة، ليتبنى من فوقها قناعات خاطئة أيضا.
“الانفصالية” الجنوبية لم تكن في الواقع ثمرة فشل المشروع الأيديولوجي الذي مثله “الحزب الاشتراكي اليمني”، لوحده. إنها ثمرة فشل المشروع القبائلي الشمالي أيضا.
نحن، بهذا المعنى، إزاء ظاهرة مختلفة تماما، عن “صومال- لاند”، وذلك بمقدار ما هي مختلفة عن أي ظاهرة انفصالية أخرى عرفتها المنطقة (كردستان العراق مثلا). فلكل منها تاريخ خاص.
اليمنيون شعب واحد، هذا صحيح، أرضا وتاريخا وثقافة واقتصادا. لكن الضرر الذي ألحقته أحزاب الشمال، وفي مقدمتها حزب الإصلاح، بالوحدة الطبيعية لليمن، لم يكن أقل ضررا مما ألحقه اشتراكيو اليمن الجنوبي. وعندما غلب فشل على فشل، وسلم علي سالم البيض مفاتيح دولة أنهكتها المذابح الأيديولوجية، لسلطة الرئيس علي عبدالله صالح، بدا الأمر وكأنه تزكية لدولة شمالية كانت هي بحد ذاتها غير صالحة للبقاء.
“الانفصاليون” الجنوبيون اليوم، ليسوا ورثة اشتراكيي اليمن الجنوبي. إنهم ورثة العاقبة فحسب. رأوا على وجه التجربة كيف يغلب فشل على فشل، لينتج فشلا أعمّ وأشمل.
جنوبيو اليمن، أكثر ميلا إلى دولة مدنية. أقرب إلى قيم التحضر. وللأمر أصوله التي تمتد إلى موقع عدن وتاريخها، بوصفها صلة وصل مع عالم أكثر فسحة من عالم قبائل الشمال المغلقة عيونها والمغلقة قلوبها، على تقاليد أكثر بدائية مما يجوز أن يتم تبريره بدولة. فما بالك إذا تصرفت حيال الجنوب بنزعة ظافرية، يسخر منها كل شبر في الجنوب.
المجلس الانتقالي الجنوبي، انضم إلى التحالف العربي الذي تقوده السعودية في مواجهة الانقلاب الحوثي انطلاقا من دافع أكثر تأصيلا، من دافع الشرعية نفسها. حزب الإصلاح وفلول حزب علي عبدالله صالح، قاتلوا الانقلاب الحوثي من أجل أن يستردوا دولة القبائل. دولة الغلبة الظافرية على كل جزء من أجزاء اليمن. بينما قاتلها الجنوبيون لأنهم عرفوا وجهي الشر معا.
الانفصالية الجنوبية قد لا تكون جديرة بالاعتبار، إذا ما تم النظر إلى الأزمة من وجهة نظر “شرعية” لم تعمّر طويلا حيال فشلها الخاص. لم تنظر فيه ولم تعالجه. ولكنها سوف تصبح جديرة بالاعتبار إذا ما نظر إليها من وجهة نظر الحاجة إلى بناء دولة تنتسب إلى يمن يمثل شعبه، لا اليمن الذي يمثل قبائله.
من المفارق تماما أيضا، أن يظل المجلس الانتقالي الجنوبي مدافعا عن الشرعية. هو في الواقع يدافع عمّا يعنيه التحالف العربي الذي تقوده السعودية أكثر مما يدافع عمّا تعنيه تلك الشرعية. وبما أن التحالف يتمسك بالشرعية، فقد وجد الجنوبيون أنفسهم يتمسكون بها أيضا. فقاتلوا معها، وإلى جانبها، ولكن ليس بالضرورة من أجلها. لأن الشيء الذي تعنيه هذه الشرعية لا يزال هو نفسه غامضا. غامض على الرئيس عبدربه منصور هادي نفسه.
المجلس الانتقالي حرص على حقن الدماء بين اليمنيين، من أجل فسحة في الزمن لعله يمكن لما يعنيه التحالف العربي أن يسفر عن دولة أكثر تماسكا وأقرب إلى الزمن الحاضر من الدولة التي كان يقودها حزب الإصلاح أو حزب علي عبدالله صالح، أو الحزب الاشتراكي في الجنوب.
واضح أيضا أن هذا لا يمكنه أن يمر من دون مناوشات. تتعلق، بالأحرى، برؤيتين واحدة منهما غامضة. لتجد الثانية نفسها أكثر وضوحا، ولو كان على قالب “انفصالي” في الجنوب. فما بالك إذا كان وزير داخلية الشرعية جليسا دائما لقيادات القاعدة في اليمن؟ وما بالك إذا كانت الطائرات المسيرة والصواريخ الحوثية، كثيرا ما يُنظر إليها، من جانب “الإصلاحيين” على أنها “مكسب”؟
الإصلاحيون، وهم “إخونجية” في نهاية المطاف، لا يستطيعون، تفصيلا وتأصيلا، أن ينظروا إلى السعودية الراهنة، إلا على أنها عدو.
فإذا ما نظر الجنوبيون إلى حاجتهم إلى السعودية لتنجيهم من الشرّيْن معا: الانقلاب الحوثي، وقبائلية الفشل، فإنهم بالأحرى حليف أفضل، لأنه أصدق مع نفسه على الأقل.