ثمة حاجة عربية دائمة إلى التصالح مع المنطق والواقع، خصوصا في دول عربية معيّنة مثل العراق. على سبيل المثال وليس الحصر، قال وزير الخارجية العراقي محمد الحكيم أخيرا إن وجود القوات الغربية في الخليج يزيد التوتر في المنطقة. وأضاف “دول الخليج العربي مجتمعة قادرة على تأمين مرور السفن… العراق يسعى إلى خفض التوتر في منطقتنا من خلال المفاوضات الهادئة، وإن وجود قوات غربية في المنطقة سوف يزيد من التوتر”.
حسنا، ماذا لو تُرك الخليج من دون قوات غربية في ظل السياسة العدوانية لإيران التي تسعى يوميا إلى إظهار أنّها القوة المهيمنة على المنطقة؟ من يحافظ على التوازن في المنطقة غير الوجود العسكري الغربي الذي تسببت به إيران؟ لو كان وزير الخارجية العراقي يمتلك حدّا أدنى من المنطق، لكان أوّل ما فعله أن دعا إيران إلى مراجعة سياساتها والتصرّف كدولة عادية تسعى بالفعل إلى علاقات طبيعية مع كلّ جيرانها، بما في ذلك دول الخليج العربي.
ليس سرّا أن وزير الخارجية العراقي لا يستطيع توجيه أيّ انتقاد من أيّ نوع إلى إيران. لكنّ عجزه عن ذلك يفرض عليه تفادي السقوط في فخّ الخطاب السياسي الإيراني الذي لا علاقة له بالحقيقة، من قريب أو من بعيد. الأهمّ من ذلك كلّه، تجاهل محمّد الحكيم للدور الذي لعبه العراق أصلا في عهد صدّام حسين في تكريس الوجود العسكري الغربي في منطقة الخليج.
لدى الحديث عن أهمّية القوات الغربية والأجنبية في الخليج، تبرز ضرورة استعادة السنوات الثماني للحرب العراقية – الإيرانية، والحاجة إلى حماية الناقلات الكويتية من الهجمات الإيرانية. وقتذاك، اضطرّت الكويت إلى الاستعانة بالقوتين العظميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كي تبحر ناقلات النفط التابعة لها في الخليج بسلام وأمان. رفعت هذه الناقلات، بفضل السياسة الذكيّة للكويت، العلمين الأميركي والسوفياتي في الوقت ذاته. اعتمدت إيران الحكمة وجلست تتفرّج على هذه الناقلات بدل الاعتداء عليها. عندما تحضر القوّة، تصبح إيران حكيمة فجأة وتمتنع عن أيّ مغامرات.
يمكن الذهاب إلى ما بعد حرب 1988-1980 للتأكد من أهمّية القوات الغربية والأجنبية في الخليج. لم يكن أمام الكويت من أجل استعادة وضعها الطبيعي سوى الاستعانة بالقوات الغربية. هناك تحالف دولي، في أساسه الجيش الأميركي، أدّى إلى طرد المحتلّ العراقي من الكويت. صحيح أن الجانب العربي، على رأسه المملكة العربية السعودية، لعب دورا محوريا في دعم الكويت من أجل استعادة استقلالها وسيادتها، لكن الصحيح أيضا أنّ ذلك لم يكن ممكنا لولا إرسال الولايات المتحدة نصف مليون جندي من أجل تحرير الكويت. كان هناك أيضا جنود وضباط من دول غربية عدّة بينها فرنسا وبريطانيا لعبت دورها في تحرير الكويت، كما كانت هناك قوات عربية لكن من حسم الموقف في نهاية المطاف كان التدخل الأميركي. الملفت أن إيران لم تنبس وقتذاك ببنت شفة. ولما أرسل صدّام حسين وزير الخارجية طارق عزيز وأخاه غير الشقيق برزان التكريتي إلى طهران طالبا مساعدتها في مواجهة “الشيطان الأكبر” الأميركي في الكويت، ردّ هاشمي رفسنجاني، الذي كان رئيسا للجمهورية، بخطاب حماسي طويل عن ضرورة مواجهة “الشيطان الأميركي” والأسباب التي تدعو إلى ذلك. لكنّه ختم مطالعته بقوله لطارق عزيز وبرزان التكريتي “أمّا بالنسبة إلى مواجهة الشيطان الأكبر في الكويت، فإن هذا شرف نتركه لكم”. كانت هذه رواية برزان التكريتي الذي رافق طارق عزيز إلى طهران بصفته مسؤولا عن ملفّ المفاوضات مع إيران، وهي مفاوضات كانت تدور في مقرّ الأمم المتحدة في جنيف، في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية.
في كلّ مرّة طُرح فيها موضوع القوات الغربية والأجنبية في الخليج، اعتمدت إيران موقفا يخدم مصالحها. كانت شريكا في الحرب الأميركية على العراق في العام 2003. كانت الشريك الوحيد بين دول المنطقة في تلك الحرب التي انتهت بمنتصر واحد هو “الجمهورية الإسلامية”. نسيت إيران شيئا اسمه القوات الغربية، خصوصا الأميركية، أو “الشيطان الأكبر”. على العكس من ذلك، صارت أميركا فجأة حليفا وضع نفسه في خدمة المشروع الإيراني الذي يعيش حياة ثانية منذ سقوط العراق، وذلك بغض النظر عن التقويم الموضوعي لما كان عليه نظام صدّام حسين على الصعيد الداخلي ومغامراته الهوجاء خارج حدود العراق، وصولا إلى خطيئة احتلال بلد عربي آخر مثل الكويت.
هناك إذا قوات غربية وأجنبية حلال، وقوات غربية وأجنبية حرام. عندما تكون هذه القوات في خدمة إيران، لا تعود هناك مشكلة معها. تصبح حلالا. عندما تساعد هذه القوات في الحدّ من العدوانية الإيرانية تصبح هذه القوات تدخلا أجنبيا يجب وضع حدّ له… وتصبح حراما. لماذا على العراق إقحام نفسه في لعبة إيرانية مكشوفة لا ناقة له ولا جمل فيها بدل الدفاع عن مصالحه؟ هل أصبح العراق، إلى هذا الحدّ، مجرّد رهينة إيرانية وذلك على الرغم من وجود شبه إجماع في الأوساط الشعبية، بما في ذلك الأوساط الشيعية، على ضرورة مقاومة النفوذ الإيراني؟
من الواضح، أن “الجمهورية الإسلامية” تمارس حاليا ضغوطا قويّة على العراق الذي سيتوجب عليه الاختيار قريبا بين إيران وأميركا. كلّما زاد تأثير العقوبات الأميركية على إيران، زاد اقتراب العراق من ساعة الحقيقة. هل هو إيراني أم أميركي؟ لعلّ التذكير الأخير للعراق، بأن عليه أن يختار، إطلاق السفارة الأميركية في بغداد مساء الاثنين الماضي صفارات إنذار بعد سقوط قذائف في محيطها.
ليس معروفا هل يستطيع العراق الاختيار. الأكيد أنّ معظم الذين في السلطة الآن يرفضون أن أن يتذكروا أنّ دبابة أميركية ولا شيء آخر غير هذه الدبابة أعادهم إلى بغداد. ولكن ما العمل عندما تكون هذه الدبابة في خدمة المشروع التوسّعي الإيراني الذي يفرّق بين القوات الغربية والأجنبية الحلال، والقوات الغربية والأجنبية الحرام، والذي يعتبر أن العراق جزء من المعركة المصيرية التي يخوضها مع إدارة دونالد ترامب؟
يبدو أن هذه الدبابة الأميركية غيّرت اتجاهها. جاء هذا التغيير في وقت ليس فيه ما يشير إلى أن وزير الخارجية العراقي يمتلك هامشا للمناورة يسمح له برؤية الأمور كما هي، والتصالح مع المنطق والواقع. مثل هذا التصالح يبدو ممنوعا بالقوّة على العراقيين. عليهم الانضمام إلى الجوقة الإيرانية التي تندد بالقوات الغربية والأجنبية في الخليج عندما لا تكون هذه القوات في خدمة إيران. تلك تبدو مأساة العراق التي يختزلها تصريح لوزير خارجيته الذي لم يعد سرّا أنّ ليس في استطاعته وضع مصالح العراق فوق مصالح إيران…