لفارس سعيد نهفاته حيال المشكلة اللبنانية. ينتمي الى الفريق الذي لا يعرض صلحة مع سلاح المقاومة، لكنه، يقول ما يتجنب رفاقه السابقون قوله حيال الدعم الخارجي للقوى المعارضة لسلاح المقاومة. لا يزال سعيد متأثراً بمرشده الراحل سمير فرنجية لجهة احترام المقامات، والبكوات منهم على وجه التحديد. إلا أنه لا يبدو مفتوناً بذكاء بعض القادة، ومنهم وليد جنبلاط. لكن سعيد الذي له في كل عرس قرص، استخلص درساً واحداً مفيداً من المعركة الأخيرة: ما كان جنبلاط ليحصل على دعم الغرب لولا أنه رفع الصوت في وجه حزب الله!
جنبلاط هو أبرز الزعماء اللبنانيين الذين لا يهتمون برأي الجمهور. يروي أحد الخبثاء حكاية تعود الى النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، وفيها أن جنبلاط زار الرئيس نبيه بري في مكتبه. وقال له ناصحاً كصديق: «ها أنت اليوم المسؤول الأول عند شيعة لبنان والبارز بينهم عند الشيعة العرب. لكن أقصى ما تمنحك إياه اللعبة اللبنانية هي رئاسة المجلس النيابي. لقد حان وقت أن تخرج وتجول في العالم. تبني صداقات وعلاقات وتتخلص من عبء هذه الوظيفة المملّة». ردّ بري عليه: «أنت مجنون، اذهب الى أين؟ أنت مرتاح، يمكنك أن تغادر لمئة سنة، ثم تعود لتجد أتباعك في انتظارك. أما أنا، إن غبت أياماً قليلة، فسيتنافس العشرات على هالكرسي ... قوم يا زلمة، روح لحالك!»
جنبلاط هذا، خطط لما حصل في قبرشمون. الرسالة الأولى أنه لا يبدو راغباً فعلياً في التقاعد. ولا هو مقتنع بأنه حان وقت تقاعد أركانه، وإخلاء الساحة لجدد يفترض أن يصطفّوا حول ابنه الوريث. لذلك، قرر أنها ساعة الحقيقة. وأن اللعبة تتطلب حضور الأصيل لا الوكيل. أعطى ابنه الإجازة التي يحب (ويستحق) ثم دق النفير، ليرتدي أركانه ثياب المعركة ويستعيدوا اللغة الأحب الى قلبهم. وحيلتهم هذه المرة، كلام يصدر عن «شاب طايش» يمثل العدو الوجودي للقبيلة. وفي لحظات تحول جبران باسيل الى أداة في لعبة جنبلاط، هي لعبة الدم التي يتقنها الأخير وبأعصاب باردة، كان نائب الشوف السابق واثقاً من أنه كلما ارتفع الصراخ فوق صوت الرصاص، اضطرّ الآخرون الى الركض خلف مصالحته.
لكن جنبلاط الخبير في اللعبة المحلية، قرر أنه يمكن تحقيق مجموعة أهداف دفعة واحدة: أن يظهر أولاً في موقع المناهض الأبرز لسياسات حزب الله في لبنان، ما يعيد لفت انتباه الغرب وعربه إليه؛ وأن يعيد ثانياً لمّ الشمل في صفوف أنصاره الذين تعبوا من عجزه في السنوات الأخيرة؛ وأن يضرب ثالثاً منافسيه داخل القبيلة، وتصويرهم أمام الجمهور كأدوات في يد الخصوم الأصليين، وبأنهم لا يشكلون حيثية بحدّ ذاتهم.
لكن لجنبلاط حظوة عند آخرين من قادة البلاد، المتذمرين أصلاً من الوضع القائم. هكذا، وفي لحظة واحدة، أعلن الرئيس بري أنه لا يمكن ترك جنبلاط وحيداً. بينما سارع الرئيس سعد الحريري الى محو كل تغريدات الأسابيع السابقة والعودة الى رفيق الوالد الشهيد، فيما تنبّه سمير جعجع الى أن اشتباك جنبلاط مع حزب الله والتيار الوطني الحر يشكل مناسبة له (لجعجع) للخروج من عزلة أتعبته فوق تعبه الشخصي. وبعدما سار هذا الباص، حتى وجد ركاباً في الانتظار عند محطات كثيرة، سواء من خصوم حزب الله أو خصوم العونيين. لكن الجديد، أن راكباً لم يكن في الحسبان، اعترض طريق الحافلة. تعلق بحافة الباص من دون أن يدخل إليه بصورة كاملة. ربما في انتظار محطة أو رحلة جديدة. إنه قائد الجيش العماد جوزيف عون!
عندما وقعت الأحداث الأمنية في قبرشمون، كان البعض يرغب في أن يتولى الجيش عملية قمع أنصار جنبلاط، ولو مع سقوط دماء. كان هؤلاء يعتقدون أنه في حال حصول ذلك، فسوف تكون البلاد أمام درس قوي لكل خصوم العهد. لكن في قيادة الجيش مَن قرر أن ما يحصل هو مجرد معركة بين متنافسين من القوى السياسية. وأن التورط في هذا النزاع سوف يربك معركة اليرزة نحو انتزاع استقلالية تامة للمؤسسة العسكرية عن النفوذ السياسي المباشر للقوى الحاكمة، وخصوصاً التيار الوطني الحر برئاسة باسيل. وهي معركة تستهدف أيضاً توسيع هامش التمايز عن حزب الله والمقاومة، والذهاب بعيداً في التنسيق مع الأميركيين والبريطانيين وبعض العرب. وفي عقل هذه المجموعة «من الضباط المبتدئين في صفوف المدرسة السياسية اللبنانية»، أن فرصة ترشيح قائد الجيش للرئاسة الأولى تتطلب الآن هذا النوع من السياسات، علماً بأن الحديث عن الترشيح الرئاسي لقائد الجيش لم يعد مجرد همس هنا وهناك، بل إن القائد نفسه لم يعد يكتفي بالصمت حينما يسأل في حلقات ضيقة. لكن أحد أعضاء فريقه الضيق ينسب إليه أنه لن يمانع تولي منصب يتوافق عليه الكبار في لبنان، ويحظى بدعم العالم. وهذه العبارات، لمن يعرف لبنان، تمثل ببساطة جوهر بيان الترشيح التقليدي لكل طامح الى الرئاسة في لبنان، وحتى الى أي منصب آخر.
عملياً، ما حصل أن قيادة الجيش لم تتصرف حيال جريمة قبرشمون كما تصرفت في أمكنة كثيرة من لبنان. وطبيعة الجريمة لا تختلف في الشكل والجوهر عن جرائم أخرى ارتكبت في أمكنة أخرى حيث تصرف الجيش بقسوة مبالغ فيها، كما حصل مراراً في الشمال والبقاع، حيث تنتهي كل عملية أمنية هناك بسقوط قتلى وجرحى. ولم تكتف قيادة الجيش بالخروج من الشارع في الجبل، بل قررت الابتعاد سريعاً عن بقية الملف. واعتذرت عن عدم القيام بأي دور أمني في مرحلة التحقيق. وقبلت قيادة الجيش لأول مرة، وطوعاً، أن يقوم فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي بالتحقيقات. وعندما بدأت النتائج في الظهور، كان قائد الجيش أول من أثنى على جهود فرع المعلومات. وفي جلسة «نقاش مهني»، وأمام ممثلي جميع الأجهزة الأمنية والعسكرية في البلاد، وحضور ممثل رئيس الجمهورية ميشال عون، حسم قائد الجيش الجدل التقني، معلناً أن المواجهة في البساتين «لم تكن مدبّرة، بل هي إشكال ابن ساعته». وهي عبارات جعلت الحاضرين يعيدون ترتيب جلوسهم في مقاعدهم وهم يستمعون الى موقف يصب عملياً في مصلحة جنبلاط وفريقه.
وللصدفة، ولا شيء سوى الصدفة، قال قائد الجيش هذا الكلام قبل ساعات من تبلغ السفارة الأميركية موافقة إدارتها في واشنطن على إصدار بيان يتضمن اتهامات غبر مباشرة الى الرئيس عون وفريقه السياسي بالتدخل في عمل القضاء والأمن المعنيين بمتابعة ملف الجريمة. طبعاً لم تكن سطور بيان السفارة هي كل ما قام به الأميركيون. فهم تحدثوا لأيام مع جميع الذين يهمّهم الأمر في لبنان، داخل الحكومة والمؤسسات وفي كتل نيابية وأحزاب، وقالوا صراحة إنهم سيعارضون أي إجراء تكون نتيجته هزيمة جنبلاط. ما ترجم على أنه دعوة لأهل الحكم لإنجاز مصالحة سريعة وبأي ثمن، وهو ما قبل به جبران باسيل قبل طلال أرسلان ولو على مضض.
خطوة قائد الجيش ليست بعيدة عن مشكلته المتفاقمة مع باسيل. يعاني قائد الجيش من محاولات باسيل الدائمة وضع يده على المؤسسة العسكرية وجهازها الأمني. يعرف العماد جوزيف عون أن عدة الشغل الخاصة بباسيل تقتضي الإمساك بالمؤسسة العسكرية لأسباب تكتيكية واستراتيجية. وكان الاثنان يذهبان الى رئيس الجمهورية للشكوى. الأخير كلف منذ اليوم الأول مستشاره العسكري العميد بول مطر إدارة ملف العلاقة بين القصر الجمهوري واليرزة، ثم أضاف إليه مهمة التنسيق أيضاً بين اليرزة وباسيل. مطر لا يبدو محتجاً على سلوك قيادة الجيش، لكنه يريد تنسيقاً أكبر مع باسيل، لأن هذا ما يريده الرئيس. وصار مطر يحاول الحصول من قيادة الجيش على تجاوب مع طلبات باسيل، إلى أن تطور الأمر إلى حد التوتّر، فاضطرّ الرئيس عون الى استدعاء قائد الجيش وطلب إليه في حضور باسيل التعاون والتجاوب مع رئيس التيار. لكن هذه التسوية لم تعمر طويلاً. لأن باسيل لديه تصور يقضي بإبعاد عشرات الضباط (المسيحيين) من مواقع أساسية هم فيها الآن، ويتقدمهم مدير المخابرات العميد طوني منصور. كما أن باسيل يدعم فكرة إحداث تغيير كبير داخل قيادة الجيش، بما في ذلك تشجيع ضباط كبار على الاستقالة مقابل إعطاء الدور لضباط أصغر عمراً ورتبة لاعتقاد باسيل أنه يقدر على الإمساك بهم بصورة أفضل. وباسيل يتصرف مع قيادة الجيش وفق اعتبارين: الأول أنها جزء من المؤسسات التي يجب أن تخضع للقيادة السياسية المسيحية (وهو يرى نفسه اليوم الممثل الأوحد للمسيحيين في الحكم)، والثاني أنه يريد إقفال «مكتب الترشيحات الرئاسية» في «نادي قادة الجيش». لكن باسيل يبدو أكثر توتراً، مع ملاحظته أن قائد الجيش ينتزع منه التأييد الغربي كلاعب مركزي في لبنان. وهذا ما يجعل الباب مفتوحاً أمام مشكلة جديدة وجدية بين المتنافسين على الرئاسة الأولى من المرشحين الموارنة.
عملياً، دلّت جريمة قبرشمون ــــ البساتين وتداعيتها وآلية معالجة نتائجها على أصل اهتمامات قادة البلاد وهواجسهم. ونحن اليوم على أبواب مرحلة ترتسم فيها أطر جديدة، لتحالفات جديدة، وستظهر معالمها أكثر فأكثر مع الأيام، وسيكون عمادها الموقف من ملف رئاسة الجمهورية، والجامع الوحيد بين أعضاء «النادي الحامي لجنبلاط» هو خصومة العهد الحالي، ومنع وصول (أو بقاء) باسيل في القصر الجمهوري.
يبدو أن على اللبنانيين انتظار المزيد من المواجهات، وربما المزيد من الدماء. لكن أي عاقل يجب ألا يتوقّع تغييرات جوهرية في المشهد المحلي، ما لم يقرع الجرس إيذاناً بمواجهة كبيرة في الإقليم وربما العالم، بين محورين، يستعدان ليل نهار لمنازلة القرن!