يبدو أن كل شيء جديد ومثير للألم والسخرية أصبح يأتي من العراق منذ احتلاله وإلى حد اليوم بسبب عدم قدرة الحكومة على السيطرة على البلاد ليس لعدم رغبتها أو لعجز في أجهزتها الفنية، ولكن لنفوذ الأحزاب وهيمنة مواليها وأتباعها على مختلف مرافق الحياة الاقتصادية والاجتماعية ونشاطاتها الخدمية تحت واجهات وعناوين منظمات وشركات كثيرة مدعومة بقوة السلاح.
مثلا أصبح من يدعي انتماءه إلى “الحشد الشعبي” لا يقف بوجهه المواطن البسيط صاحب العمل إلا إذا دفع “الخاوة” أي ضريبة غير قانونية، أو تنازل عن مشروعه التجاري حفاظا على حياته. وضجت وسائل التواصل الاجتماعي في العراق قبل أيام بحادثة إلقاء القبض على المدعو حجي حمزة الشمري في بغداد، وهو شاب شيعي وجد أمامه طريق الإثراء سهلا ومغريات المال والنفوذ ممهدة ومدعومة من كبار السياسيين.
في النهار يمارس جميع طقوس المذهب وعبر إعلانات دعائية مبالغ فيها، وفي الليل يصبح ذلك الخبير في فنون المقامرة وتجارة المخدرات والنساء ونهب المال. عُرف في الأوساط العامة على أنه رجل أعمال في القطاع السياحي، ويجري على الدوام لقاءات مع سياسيين ورجال دين وشخصيات عامة، ويدعي انتماءه إلى الحشد الشعبي، كما يفعل كثر غيره في سلب حقوق الناس، وقد نشرت له لقاءات وفيديوهات تسلمه هدية سيف علي “ذو الفقار” من أحد الزعامات الشيعية وتصريحاته المتلفزة بأنه تسلم شهادة تقديرية من المرجعية الشيعية، ثم انكشف بعد إلقاء القبض عليه من قبل الأجهزة الأمنية وجهاز الحشد الشعبي أنه من أكبر زعماء المافيات المسيطرة على جميع أماكن لعب القمار والدعارة وبيع النساء وتجارة المخدرات المحلية والدولية وعمليات غسل الأموال.
لا شك أن الخبر مفرح للناس رغم جزئيته، فالفاطس حجمه كبير من شبكات الفساد التي نهبت أموال العراق ولم تمس إلى حد الآن، حيث اعترف رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي بأن الفساد تجاوزت قيمته 300 مليار دولار، وصدرت تعليقات كثيرة على وسائل التواصل الاجتماعي أطرفها ما ورد على لسان رجل القانون طارق حرب حيث قال “هل بدأت حرب المافيات والتصفيات بين المتصدرين والمتنافسين على احتكار هذه التجارة؟ ولمن ستكون من هؤلاء خلافة حجي حمزة في قيادة هذه التجارة التي أرباحها وما يتحقق منها يوازي أو يفوق ما تأمل الحكومة الاتحادية حصوله من تصدير نفط كردستان بالرقم الوارد في موازنة 2019؟”.
وتدور تسريبات تقول بأن هناك محاولات لإطلاق سراحه. ويبدو أن قرار المداهمة والفضح لحجي حمزة قد رتب بين عادل عبدالمهدي وقيادة الحشد الشعبي لأهداف واضحة أهمها تبرئة تلك القيادة مما يحصل من تعد على أمن الناس ومصالحهم، وتطاول بعض مدعي الانتساب للحشد الشعبي على حرمات العراقيين وكراماتهم ليس في بغداد فحسب وإنما في المحافظات العراقية الأخرى، وكجزء من خطة احتواء مناخ التصعيد الأميركي الحالي للكشف عن الفاسدين، وتورط الأحزاب في ذلك واحتمالات أن تبدأ عمليات التسقيط بين أطرافها من جهة، ورئاستي الحكومة والبرلمان من جهة ثانية.
تساءل جمال الكربولي رئيس كتلة الحل البرلمانية “ظاهرة حجي حمزة نهشت الجسد العراقي قمارا ومخدرات وتجارة أعضاء بشرية، ما بين السكوت عنها وحمايتها وبين التسابق على البراءة منها.. فماذا عن بقية الحجاج الحمزات”. كما اتهم القيادي في التيار الصدري حاكم الزاملي الحكومة بالتستر على تجار المخدرات والاتجار بالبشر بسبب دفع الرشاوى من قبل تلك العصابات.
لقد أصبح العراق وبشهادة كثر من المعنيين مركزا لتسويق المخدرات وليس مستهلكا لها مثلما تذكر التقارير عن امتداد هذا السرطان إلى مدارس البنات في بغداد وخارجها، وقد داهمت هذه الجرائم الغريبة والخبيثة حرمات المجتمع العراقي من قبل عصابات تدعي الانتساب للمذهب الشيعي والاقتداء بسيرة الإمام علي وهو بريء منها. فحينما سئل ملك المخدرات الكولومبي بابلو إسكوبار عن الأساس الذي تعتمد عليه تجارة المخدرات أجاب “الأمر بسيط ترشي شخصا هنا وترشي آخر هناك وتدفع لصاحب مصرف ودود ليساعدك في جلب المال”.
وإذا افترضنا أن عملية القبض على حجي حمزة ليست طارئة وإنما بداية جدية لحملة حقيقية، فلا بد من ملاحقة علاقاته الحميمة مع كبار السياسيين التي كشفت عنها صوره، وارتباط ذلك بعملية تهديم المجتمع العراقي وسرقة أمواله.
إن هذه الحادثة تضع محركي الرأي العام العراقي أمام مسؤولياتهم في فتح الملفات الخطيرة بالبلد بعد توفير الضمانات الأمنية لهم وكشف العلاقة الفعلية بين تلك المافيات والفاسدين السياسيين، لأن هذا الربط له أهمية كبيرة في كسر معنوياتهم بعد أن لم تعد تؤثر فيهم السمعة السيئة، ومهمة الكشف هذه ليست يسيرة لأن مافيات الفساد داخل العراق ترتبط بسياسيين نافذين يغطون عليها وامتدادات إقليمية توفر لها الحماية، ولا بد ألا تكون حادثة حجي حمزة عرضية وذات أغراض سياسية خاصة، وإنما مقدمة حقيقية من قبل الحكومة المركزية للدخول في معركة الإصلاح الجدية في العراق، لكي لا تتكرر ظاهرة حجي حمزة فكم مثله طلقاء في هذا البلد المبتلى.