ألقى متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة عظة بعنوان "نعمة الحرية"، قال فيها: "يهدف كل تعليم أخلاقي في المسيحية إلى اقتياد الإنسان إلى الحرية الحقيقية التي تتحقق بالرب يسوع المسيح: "تعرفون الحق والحق يحرركم" (يو 8: 32). هكذا يدعونا الإنجيل، وتدعونا الكنيسة، إلى "حرية مجد أبناء الله" (رو 8: 21)، التي تتحقق عندما نحيا وصايا الرب ونسمع كلمته ونستنير بتعاليم قديسيه. أي دعوة إلى حرية خارج الحق، وبعيدا عن المسيح وسيادته على حياتنا، هي انغلاق لقلب الإنسان وأسر الخطيئة لنفسه في الأوهام والأهواء المعابة. الحرية هي أن "لا يتسلط شيء" على الإنسان. "كل الأشياء تحل لي، لكن ليس كل الأشياء توافق. كل الأشياء تحل لي لكن لا يتسلط علي شيء" (1كو 6: 12). بهذه العبارات، أوضح الرسول بولس حدود حرية الإنسان على المستوى الأخلاقي. فالمؤمن بالرب لا يسمح لأي فكر أو ممارسة أو عقلية أن تقيده أو تحرمه من حريته الممنوحة من الله".

أضاف: "الإنسان خلق على صورة الله ومثاله، أي على صورة حريته. هو في تكوينه كائن عقلي حر، وسيد على الخليقة، وهو مدعو إلى المحافظة على هذه النعمة الفريدة التي تميزه عن سائر المخلوقات. هو مدعو أيضا إلى النمو في الحرية والسيادة والحكمة والإدراك، وإلى بلوغ كمال الحرية التي تعطى له في مسيرة نموه الروحي، وفي عمله على تنمية مواهبه الخلاقة، وفي العطاء والبذل والتضحية. تتحقق الحرية في المسيحية بانفتاح الإنسان على نعمة الروح القدس. هي قدرة كل واحد منا على تحطيم أغلال الخطيئة وإبعاد كل ما من شأنه أن يؤذيه أو يدخل الظلمة إلى نفسه. هي انطلاق الإنسان إلى ملء الحياة، في التوبة والجهاد والتنقية والمحبة. هي المناعة النفسية والروحية ضد كل خطيئة وشر، والتي يقتنيها المؤمن بتمرسه على الاعتراف بخطاياه بصدق والتجائه المستمر إلى المعونة الإلهية. يحرز الإنسان الحرية بالتربية الصالحة والتدرب الشجاع على طاعة الله واستمداد القوة منه".

وتابع: "يعطي البشر تعريفات مختلفة للحرية بحسب ما يوافق غاياتهم وتطلعاتهم. يعتبرونها قيمة أخلاقية إنسانية مجردة من كل بعد إيماني. هذه الحرية هي في حقيقة أمرها، رغم تذرعها بالدين والإنجيل في بعض البيئات، تنأى عن أي إمكانية حقيقية لتحرير الإنسان من الداخل، من ذاته وأهوائه وأوهامه الفردية والجماعية. يبقى متمسكا بأقنعته الزائفة ولا يواجه حقيقته، بل يلتهي بالشعارات والزي السائد والأمور الراهنة. أما ما يعيشه البعض اليوم باسم الحرية من تفلت لا مسؤول، وغوغائية، وضياع للقيم، وتمحور أناني حول الذات، وإرضاء للشهوات المظلمة، فهو في حقيقته تذرع غير صادق بأفكار تجرد الإنسان من أثمن ما في حياته، من صورة الله فيه ومن إمكانية النمو وبلوغ "ملء قامة المسيح" (أف 4: 13). لا يحقق الإنسان إنسانيته إلا في المسيح، وأي كلام غير هذا هو ضياع، بل تضليل، لمن يبحث عن معنى الحياة وعن غاية الوجود".

وقال: "واجبنا أن نصون أبناءنا من كل أذى، وممن يحاولون أن يسبوهم بأفكارهم الدهرية العالمية الغريبة عن الإنجيل وعن وصايا الرب يسوع. واجبنا أن نحميهم من كل شر متأت من كل "حرية" زائفة، وأن نقودهم، كرعاة ومعلمين وأهل، "إلى ينابيع ماء حية". "الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف" (يو 10: 11) لا سيما إذا ما "شاهد الذئب مقبلا". لذا، تتصدى الكنيسة بشجاعة لكل ما من شأنه أن يسيء إلى حرية أبنائها من فن أو فكر أو عادات أو انحرافات وأنماط عيش شاذة. الحرية هي صورة لكمال الله ومحبته. الله، بملء حريته، يخلق الكون من العدم، ويبدع الإنسان، ويسكب فيه نعمته، ويتدخل في تاريخ الخلاص من أجله. الرب، من أجل عظم جلال محبته، وبحريته المطلقة، تجسد من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، "وقبل الصليب طوعا من أجلنا"، وفتح للانسانية جمعاء الطريق إلى "الحق والحياة" لأنه هو كان وما زال "الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). طاعتنا لله ولناموس المسيح هي الضمانة الوحيدة لحرية الإنسان، ولازدهار حياته "بالروح والحق" (يو 4: 23)، وللفرح الحاصل بخلاص الرب. وحدها الطاعة لله تضمن حرية الإنسانية وانعتاقها من كل شر وظلمة".

وختم عودة: "لذلك، يفتخر الرسول بولس بأن يسمي نفسه في أكثر من رسالة "عبد يسوع المسيح" (رو 1: 1). هذه التسمية في الكتاب المقدس هي أحد أقوى التعابير عن الحرية الحقيقية التي يمكن للانسان بلوغها. هي اتحاد الإنسان الكامل بالله، وامتلاؤه من نوره الإلهي، وغلبته على كل ظلمة وقباحة وخطيئة في هذا الدهر. هذه التسمية هي الانعكاس الكامل لمحبة الله في قديسيه الممجدين بالنعمة، والذين أضحوا، بانفتاحهم الكامل على النعمة المحيية والحق المحرر، آنية مختارة للثالوث القدوس. ألا جعلنا الله القدوس من عداد هذه الآنية المختارة".