مقدما ينبغي التنبيه إلى أن بإمكان أي فاعل مجهول، فردا كان أو حزبا أو جهاز مخابرات، أن يفجر مفخخة، أو أن يدبر هجوما إرهابيا، أو يطلق قذيفة أو صاروخا، تحت جنح الظلام، لتُنسب الجريمة لداعش. ولأن داعش الحقيقي ليست له مصلحة في نفي هذه التهمة وتكذيبها وإعلان البراءة منها، فإنه يفضل الصمت وعدم التعليق، لأن في ذلك دعاية “مجانية” لقوته الموهومة وجبروته المزعوم.
والحقيقة التي يعرفها الغارقون في علم السياسة ومقالبها وألاعيبها هي أن هناك أربع جهات من ذوات القدرة والحاجة إلى عودة دولة الخليفة المطارد أبي بكر البغدادي، أو داعش آخر لا يمت بأي صلة لذلك الذي مات وشيع الإيرانيون والأميركيون والأتراك والعراقيون جثمانه من زمن بعيد.
فإيران لها مصلحة في خلق داعش جديد في كل مرة تحتاج فيها إلى هز العصا الغليظة لردع خصومها العراقيين السنة والأكراد المتحالفين، سرا أو علانية، مع أميركا، وللشد من عضد رؤساء مستعمرتها العراقية ووزرائها ونوابها. أو لمآرب أخرى.
وتركيا أيضا تحتاج إلى داعش، أو إلى ما يشبه داعش، حين يشتد عليها الضرب تحت حزامها من قبل أعدائها الأكراد، ومن أصدقائها المتحالفين مع أعدائها، داخل مدنها وقراها، أو في مناطق نفوذها في سوريا والعراق. وما كشفته الحقائق الموثقة عن تعاملات الحكومة التركية مع داعش الساقط، أو تسهيلاتها التي كانت تمنحها لـ”مجاهديه” لا يحتاج إلى إعادة وتفسير.
أما أميركا دونالد ترامب فيصعب التنبؤ بأساليبها وأدواتها التي تستخدمها في حروبها الساخنة والباردة معا، وهي في أغلب أحوالها عصية على الفهم على الآخرين.
وقد اعتدنا على إطلاقها مخاوفها وتحذيراتها من عودة داعش، خصوصا في السنتين الأخيرتين، حين تريد مشاغلة إيران العراقية ومشاكستها، وإغراقها في مقاتلة الأشباح. وكذلك لتوصيل رسائل ملغومة لحكام العراق ذوي الهوى الإيراني إن لم يكبحوا جماح انقيادهم الأعمى لقاسم سليماني قبل فوات الأوان.
وقد دأب الأميركيون، من حين إلى حين، على تذكير رؤساء العراق الثلاثة، ومن يدور في أفلاكهم، بحاجتهم الشخصية إلى الرضا والعطف الأميركيين المستترين، وبحاجة جيوشهم وقوات أمنهم إلى طيران أميركا وأقمارها، وإلى إعفائهم من عقوباتها على “إيرانهم”، وإلى الاستمرار في الإغداق عليهم بسلاحها وذخائرها بالمجان، أو بالدفع العاجل الميسر السهل، أو الآجل البعيد.
والشيء بالشيء يذكر. ففي كل مرة تنشط فيها أحزاب إيران العراقية، وقادة ميليشياتها ضد وجود القوات العسكرية الأميركية في العراق يخرج مصدر رسمي أميركي أو أوروبي أو إسرائيلي ليعلن عن عودة داعش، ولينسب إليه جرائم جديدة، ويحذر من عودة هذا البعبع الذي أعلنت أميركا وأوروبا وحكومات العراق، ذاتها، عشرات المرات، أنه انتهى، وتم القضاء على آخر معاقله المحصنة، ولم يعد في إمكانه أن يعود.
وفي غمرة ألعاب جر الحبل بين أميركا وإيران في العراق أوضح محمد البلداوي أحد نواب تحالف الفتح الذي يتزعمه هادي العامري أن الاتفاق بين تحالفه وتحالف “سائرون” الذي يتزعمه مقتدى الصدر وبعض القوى السياسية الأخرى “الوطنية” أكد على ضرورة السير في خطوات تشريع قانون إخراج القوات الأميركية والأجنبية من العراق.
وفي تصريح مفاجئ أعلن مفتّش عام في وزارة الدفاع الأميركية أن تنظيم الدولة الإسلامية يُعاود الظهور في سوريا مع سحب الولايات المتحدة قوّاتها من البلاد، وأنّه عزّز قدراته في العراق.
وقال التقرير “رغم خسارته خلافته على الأرض، إلا أن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا عزّز قدراته المسلحة في العراق، واستأنف أنشطته في سوريا خلال الربع الحالي من السنة، وذلك لأسباب منها أن القوات المحلية (العراقية والسورية)غير قادرة على مواصلة شن عمليات طويلة الأمد، أو القيام بعمليّات عدة في وقت واحد، أو الحفاظ على الأراضي التي استعادتها”.
ترى، ماذا ستفعل إيران العراقية لو صح تقرير الدفاع الأميركي، وخرج لها داعش من بين القبور، ولو اضطرت أميركا إلى مغادرة العراق وتركت فخار الإيرانيين والعراقيين يكسر بعضه؟
سؤال آخر، هل إن البيئة التي أنتجت داعش القديم لم تعد موجودة في العراق وقادرة على إنتاج داعش جديد؟
بعبارة أخرى. هل تحققت العدالة والمساواة في العراق، ولم يعد الانتماء الطائفي هو مقياس الكفاءة، وانتهى زمن الميليشيات وسلاحها، وأصبح الدين لله والوطن للجميع، وخلت سجون نوري المالكي وحيدر العبادي وعادل عبدالمهدي من سكانها الأبرياء، أم إن الظلم هو نفس الظلم، والتهميش نفس التهميش، والاختلاس نفس الاختلاس، والعمالة نفس العمالة، وقاسم سليماني هو نفسه الحاكم بأمره الذي يوزع المناصب والمكاسب والرواتب، كما كان وكما سوف يكون؟