ليس هناك ما يدلّ على مدى التدهور الفلسطيني على كلّ صعيد أكثر من صورة. ظهر في تلك الصورة المستفزّة عشرات الفلسطينيين من الجرحى والمعاقين الذين أصيبوا في ما سميّ “مسيرة العودة الكبرى” التي كانت وراءها حركة “حماس”. كان هناك الأعمى والمصاب بشلل وذلك الذي تعرض إلى إصابة جعلت منه معاقا دائما. جمعت “حماس” كلّ هؤلاء في غزة في لقاء تحت عنوان كبير: “توزيع 50 دولارا مكرمة عيد الأضحى المبارك”.
من أجل خمسين دولارا، تحصل عليها في مناسبة قرب حلول عيد الأضحى تفقد عينك أو رجلك أو يدك، أو تسير على عكازين أو على كرسي نقال. هل هذه نهاية الشعب الفلسطيني الذي تحوّل وقودا لحركات متخلّفة تنشر ثقافة الموت على شاكلة “حماس” وغيرها؟
يمكن قول الكثير عن ياسر عرفات وعن الأخطاء التي ارتكبها، خصوصا في لبنان وقبل ذلك الأردن، ثمّ بعد عودته إلى رام الله في العام 1994 بعد توقّف في غزّة. لكنّ ما لا يمكن تجاهله أنّه كان يفكّر دائما بالتعليم وفي عدد خريجي الجامعات من الفلسطينيين في مختلف أنحاء العالم. كانت لديه لائحة تضمّ عدد المهندسين والأطباء والمحامين والناجحين في ميادين معيّنة من أبناء الشعب الفلسطيني الذي كان يمتلك مشروعا وطنيا أوصله إلى أبواب القدس.
من كان يحلم يوما بأنّ “أبوعمّار” سيعود يوما إلى أرض فلسطينية ويدفن فيها لو لم يمتلك في مرحلة معيّنة فكرا براغماتيا وعمليا وواقعيا أوصله إلى توقيع اتفاق أوسلو الذي لم يستطع البناء عليه؟
يعود ذلك إلى أسباب فلسطينية وأخرى مرتبطة بالتعنت الإسرائيلي. لكنّ الأهمّ من ذلك كلّه كانت العمليات الانتحارية لـ”حماس” التي أدّت إلى تغيير طبيعة المجتمع الإسرائيلي تغييرا جذريا نحو مزيد من التطرّف والرغبة في استمرار الاحتلال…
الأكيد أن ما تقوم به “حماس” لا يقتصر على خدمة الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى رغبة في تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني أيضا. يحصل هذا التغيير نحو الأسوأ وذلك كي تصبح غزّة مجرّد “إمارة إسلامية” لا مكان فيها سوى للجهل والتخلّف والتزمّت على كلّ صعيد.
إذا كشفت الصورة، التي ظهر فيها فلسطينيون يتسلمون 50 دولارا “مكرمة” في مناسبة قرب حلول عيد الأضحى شيئا، فهي كشفت الحال المزرية للمجتمع الفلسطيني في غزّة. لم يعد هناك مكان للمنطق ولا لكلمة حقّ تقال ولا لسؤال من نوع كيف يمكن للصواريخ التي في غزّة لعب دور في تحرير أي أرض فلسطينية؟
كانت “مسيرة العودة الكبرى” مهزلة المهازل. أرسلت “حماس” العام الماضي آلاف الفلسطينيين في اتجاه الأراضي الإسرائيلية، التي هي أراضي فلسطين التاريخية. طلبت من هؤلاء اقتحام الحدود. كان الرد الإسرائيلي وحشيا إلى أبعد حدود، وأسفر عن مقتل العشرات وإصابة المئات بجروح. في الواقع، لم يكن من هدف لتلك المسيرات التي شكلت “مسيرة العودة الكبرى” سوى تكريس ثقافة الموت في المجتمع الفلسطيني وترسيخها. لم تعد لدى المجتمع الفلسطيني قيمة للإنسان. صار الهدف تأليه الموت بعيدا عن كلّ ما له علاقة بالفكر العقلاني من جهة، والسعي إلى الاستفادة من الواقع من جهة أخرى. تعني الاستفادة من الواقع أوّل ما تعنيه الاعتراف بأنّ إسرائيل انسحبت من كلّ غزّة في مثل هذه الأيّام من العام 2005. كان في الإمكان التعاطي مع هذا الانسحاب بما يؤكّد أن الفلسطينيين قادرون على بناء دولتهم المستقلّة القابلة للحياة والردّ بذلك على الشعار الذي رفعه آرييل شارون وقتذاك عن أن “لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه”. كلّ ما فعلته “حماس” التي ما لبثت أن نفذت انقلابا جعلها تسيطر كلّيا على غزة منتصف العام 2007 هو دعم وجهة نظر شارون. أكثر من ذلك، عملت “حماس” كلّ ما تستطيع من أجل فصل غزّة عن الضفّة الغربية بهدف إقامة كيان فلسطيني يتحكّم به الإخوان المسلمون…
بدل العمل على تقديم صورة حضارية عن الشعب الفلسطيني، لجأت “حماس” إلى إطلاق الصواريخ التي وفّرت حجة لفرض حصار إسرائيلي على غزّة. مع مرور الأيّام، يتبيّن أن هذا الحصار مصلحة مشتركة تجمع بين إسرائيل و”حماس”. يستفيد من هذا الوضع شخص مثل الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان انضمّ إلى “محور الممانعة” الذي تتزعمّه إيران والذي لا همّ له سوى المتاجرة بالقضيّة الفلسطينية. ليست التمثيلية التي خطّط لها أردوغان في العام 2010 عندما أرسل سفنا تحمل مواد غذائية بهدف فك الحصار عن غزّة سوى دليل على انضمام تركيا إلى جوقة المتاجرين بمأساة الشعب الفلسطيني.
تختزل صورة “مكرمة” الخمسين دولارا الكثير. تقول الصورة ما لا تقوله ألف صورة أخرى عن نجاح “حماس” في تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني وتحويله إلى مجتمع ذليل ثمن العين فيه، أو الإعاقة الدائمة، 50 دولارا! مؤسف أن تكون “حماس” حققت في السنوات الأخيرة كلّ هذا النجاح الذي لا يصبّ سوى في خدمة إسرائيل التي لم تكلّف نفسها حتّى عناء الردّ على إعلان السلطة الوطنية الفلسطينية وقف العمل بالاتفاقات بين الجانبين. مثل هذا الكلام عن وقف العمل بالاتفاقات من النوع المضحك – المبكي ويكشف في الوقت ذاته أنّ السقوط الفلسطيني لا يقتصر على غزّة فقط.
يكفي التساؤل كيف يمكن للرئيس الفلسطيني محمود عبّاس الخروج من رام الله وزيارة عمّان، على سبيل المثال، من دون تسهيلات مرور إسرائيلية؟ إن تسهيلات المرور هذه لا تقتصر الاستفادة منها على “أبومازن” وأفراد عائلته، بل تشمل أيضا كبار المسؤولين الفلسطينيين الذين عليهم الاتصال بمكتب خاص إسرائيلي في كلّ مرّة يريدون مغادرة الأراضي الفلسطينية أو الدخول إليها. لا داعي بالطبع إلى التطرّق إلى أن أيّ طفل فلسطيني يولد في الضفّة الغربية يجب إدخاله السجلات الإسرائيلية لأسباب عملية وذلك في إطار الاتفاقات بين الجانبين.
في ظلّ حال الجمود التي تسمح لإسرائيل ببناء مزيد من المستوطنات في الضفّة الغربية وفي ظلّ الصمت الأميركي، بل الموافقة الأميركية، على تمدّد الاحتلال الإسرائيلي، تظلّ “حماس” بفكرها الإخواني الحليف الأوّل لليمين الإسرائيلي الذي أنعشته عملياتها الانتحارية التي تلت مباشرة توقيع اتفاق أوسلو في خريف العام 1993… قبل ما يزيد على ربع قرن.
تقول صورة الماضي الفلسطيني، التي كان يظهر فيها شاب درس في أكبر جامعات العالم وأكثرها رقيّا، بما في ذلك الجامعة الأميركية في بيروت، الكثير عن الآمال التي كان يعلقها الفلسطينيون على جيلهم الجديد. في المقابل، تعكس صورة الفلسطيني الذي ينتظر “مكرمة” الخمسين دولارا حال التدهور التي أصابت إحدى القضايا القليلة التي لا يزال يشرّف الإنسان الوقوف إلى جانبها في العالم. ولكن ما العمل في منطقة انتصرت فيها ثقافة الموت على ثقافة الحياة ليس في فلسطين وحدها، بل في لبنان أيضا؟