وصلت أزمة حادثة قبرشمون ـ البساتين إلى عنق الزجاجة، ولا تظهر حلول في الأفق إلّا إذا تراجع رئيس الجمهورية ميشال عون عن مطلب المجلس العدلي، أو تراجع رئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط عن رفضه للمجلس العدلي، فيما يبدو انّ جنبلاط ليس في وارد التراجع حتى اللحظة، خصوصاً انه يشعر بفائض قوة بسبب وقوف معظم المكوّنات السياسية المحلية إلى جانبه، من رئيس الحكومة سعد الحريري الذي رفض التجاوب مع دعوة رئيس الجمهورية لعقد جلسة حكومية منعاً لتهريب المجلس العدلي، إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي دعا علناً إلى الفصل بين المسار الحكومي والمسار القضائي، وما بينهما رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي أعلن دعمه المطلق لجنبلاط واضعاً المواجهة في إطار 8 و 14 آذار، ورئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية الذي يشكّل سكوتُه رسالة تزاوج بين الأسى على الوضع الذي وصلت إليه البلاد، والفرح بالإخفاق في الإدارة السياسية لحليفه اللدود.
وشكّل دور «حزب الله» حتى الساعة قوة إسناد للرئيس عون وليس قوة مواجهة، فيما فلو كان الحزب يعتبر انّ حادثة البساتين هي معركته لكان تموضع أمام عون لا خلفه، واتفق مع بري على موقف مختلف عن موقفه الحالي الساعي إلى مصالحة عشائرية، ما يعني انّ عون يقف وحيداً في هذه المعركة، وبالتالي لا ينبغي استبعاد احتمال أن يقول للحزب «خسارتي تعني خسارتك، وسقوطي يعني سقوطك»، وذلك من أجل ان يبدِّل موقفه المتفرِّج على الأحداث.
والسبب الرئيس في تموضع الحزب الأقرب إلى إنهاء حادثة البساتين «بالتي هي أحسن» خشيته من انزلاق الأمور إلى أزمة وطنية تطيح الاستقرار السياسي والحكومة في لحظة إقليمية حرجة للغاية، يُفضل أن يبقى فيها في موقع المنتظر لمسار الأمور بين واشنطن وطهران بدلاً من استدعاء واشنطن وغيرها إلى الساحة اللبنانية ومضاعفة الضغوط عليه من أكثر من جانب.
ولا شكّ في انّ الحزب قرأ جيداً الرسالة الأميركية الداعمة لجنبلاط، واعتراضه الشديد عليها هو موقف مبدئي، ولكنّ الرسالة تأتي في سياق مخاوفه من أن يعود لبنان في هذه اللحظة تحت المجهر الأميركي والدولي والعربي بسبب تمادي حليفه أو خطئه في كيفية التعامل مع حادثة الجبل التي صارت على قاب قوسين أو أدنى من «التدويل» بمفاعيلها السياسية، علماً أنّ الشيخ نعيم قاسم كان قال أخيراً كلاماً معبّراً عن أنّ حادثة البساتين «ليست إقليمية ولا دولية، بل حادثة محلية»، ولكنّ سوء التعامل معها يبدو أنه سيحوّلها عكس ما يشتهي قاسم، لأنّ النظرة الخارجية لتطور الأحداث في لبنان تعبّر عن خشية من محاولة إنقلابية في الوقت الضائع قبل الوصول إلى تسوية أميركية-إيرانية، وذلك من أجل وضع واشنطن أمام معطيات لبنانية جديدة.
ينظر الغرب بعين الريبة إلى تطوّر الأحداث في لبنان، ويعجز عن تفسير كيف أنّ بلداً ينزلق نحو الهاوية الاقتصادية يتقصّد أحدُ أطرافه تأزيمَ الوضع السياسي وتسخينه في أكثر من جانب وملف وقضية، ولا يجد تفسيراً لذلك سوى السعي إلى إحداث انقلاب في المشهد الوطني يسبق ما يمكن أن يفضي إليه المسار الأميركي-الإيراني، وهذا ما يفسِّر البيان الأميركي واليقظة الدولية المستجدّة حيال التطورات اللبنانية من أجل الحفاظ على الستاتيكو الراهن ومنع حصول أيّ انقلاب في هذا المشهد.
ولكن ماذا لو لم يتراجع عون الذي يعتبر انّ تراجعه يشكّل مساساً بهيبة الرئاسة، ولم يتراجع جنبلاط بفعل شعوره بالقوة وأنه خرج منتصراً من محاولة تحجيمه واستخدام القضاء وسيلةً لابتزازه وإخضاعه، ومعلوم انّ عدم تراجع جنبلاط يعني عدم تراجع الحريري الداعم له؟ وقد تصدّر هذا التساؤل المشهد السياسي في ظل استحالة الحسم على جنبلاط ورفض عون التراجع وخشية «حزب الله من التأزيم، ولكن كيف يمكن الخروج من هذا المأزق؟
وعلى رغم انّ السيناريو الأرجح يتمثّل بتدخّل «حزب الله» لدى رئيس الجمهورية من أجل البحث عن مخرج تحت عنوان أنّ المهم هو أن يقول القضاء كلمته بمعزل عن أيّ غطاء، أكان «عدلياً» او «عسكرياً» او غيرهما، ولكن لا ينبغي استبعاد سيناريو كسر المراوحة السلبية القائمة باغتيالٍ سياسي او حدثٍ أمني على رغم خطورة عودة الاغتيالات بالنسبة إلى الحزب، أو سيناريو تطوّر المواجهة فصولاً، وصولاً إلى سقوط الحكومة والليرة وقيام ثورة اجتماعية تُسقط الأخضر واليابس.
ومن الثابت انّ فريق رئيس الجمهورية يراهن على تراجع الحريري وجنبلاط ربطاً بتراجعات سابقة، ولكن ماذا لو لم يتراجعا، فهل يضمن مصير البلد واستطراداً مصيره في السلطة، وهل يتراجع تحت ضغط الحزب والأمر الواقع؟ ولكن بمعزل عن السيناريو الذي ستنتهي على أساسه حادثة البساتين هناك شيء قد انكسر وتستحيل معالجته بالقفز فوقه ومواصلة الأسلوب نفسه، لأنّ الانهيار في هذه الحالة سيكون حتمياً عاجلاً أم آجلاً؟