كان الذي يشكو من فشل العملية السياسية العراقية التي أنشأها الحاكم المدني الأميركي، بول بريمر، على المحاصصة وسلطة السلاح والهيمنة الإيرانية، ويطالب باعتقال فرسانها الفاسدين الكبار، وإعادة الدولة العراقية إلى سكة السلامة من جديد، يُتهم بالتحامل والدسيسة، وبالظلم الكبير.
حتى جاء اليوم الذي يعلن فيه رئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة، بنفسه، وعلى الملأ، أن العراق ليس دولة ولا هم يحزنون.
فلم يصادف، من قبل، في دولة من دول العالم الأول والثاني والثالث، وحتى الرابع إن وُجد، أن يأمر رئيس حكومة بعدم السياقة عكس السير. وإليكم الخبر:
“وجه رئيس مجلس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة عادل عبدالمهدي، الاثنين، 22 تموز (يوليو)، 2019، بمنع عجلات الدولة والأرتال العسكرية من السير عكس الاتجاه، وتُمنع منعا باتا المخالفة أثناء قيادة المركبة، ومنها عكس الاتجاه، والالتزام بالإشارة المرورية، ومهما كان الشخص قائد المركبة”.
وبالتدقيق الموضوعي العادل يتبين أن دولة عادل عبدالمهدي، وقبله دولة حيدر العبادي، وقبلَ قبلِه دولة نوري المالكي، وقبل قبل قبله دولة إبراهيم الجعفري، عربة قطار منفلتة تنطلق بأقصى سرعة، ولكن بعكس السير، في جميع المجالات والميادين.
فمنذ أول أيام مجلس الحكم الذي قام على أسوأ نماذج المحاصصة الطائفية والعنصرية تنبّأ كثيرون من الكتاب والسياسيين بحجم الضرر والخراب والتمزق والفساد الذي سوف يجلبه العهد الجديد للشعب العراقي. وذلك لأن السلطة لم تعد للأكفأ والأصلح والأكثر وطنية ونزاهة، بل هي للأشد وقاحة، والأقل نزاهة، والأكثر خيانة وعمالة، والأقدر على مخالفة القوانين، وعدم احترام الأصول التي كانت مرعيّة، حتى حين كانت الدولة العراقية تحت الانتداب والوصاية والاستعمار.
فكلهم دون استثناء، يحاربون كلَّ من يحاول تشخيص هذا الواقع المر، سواء بالكلمة أو بالتظاهر السلمي أو بالمعارضة الحزبية المنظمة، ويتهمونه بالعمالة لهذه المخابرات أو تلك، أو يرمونه بإحدى التهم الجاهزة، ومنها وفي مقدمتها التبعية للبعث وصدام وداعش، أو بالحقد الطائفي أو القومي الهدام.
لا تتسع صدورهم لنقد، ولا لوجهة نظر مخالفة، ولا لرأي آخر لا يمجد خرابهم، ولا يداري على فسادهم، ولا يسمي الدكتاتورية ديمقراطية، والغش والقتل والسرقة والتزوير والتهريب شطارة وشجاعة وعدالة ووطنية خالصة.
ولأن المقدمات هي التي تقرر النتائج، فإن أيَّ نظام يستنهض الفكر الظلامي المتخلف، ويوقظ العصبيات القبلية والطائفية والعنصرية المتطرفة، ويعادي التحضر والتقدم والتطور، لا بد أن يصل، عاجلا أم آجلا، إلى واحدٍ من أمرين.
إما أن يعتاد زعماؤه، ومعهم الملتفون حولهم، على حالة الفوضى والفساد وانعدام الثقة، ثم يتعايش معها المجتمع العراقي، وتضطر حكوماتُ العالم الخارجي ومؤسساته إلى التعايش والتعامل معها، وهذا هو الحاصل في العراق اليوم، بعد ستة عشر عاما من التخبط والانفلات والفوضى والاحتراب.
وإما أن يتمرد الغضب الشعبي على الفساد والفوضى والخيانة ويتمخض عن إرادة وطنية ثورية واعية تلد جبهة ديمقراطية فاعلة، فيمكن عند ذاك الخروجُ من المحنة، كما حدث في دول كانت تشبه دولتنا، مثل مصر وتونس والجزائر والسودان. وهذا ما لم يحدث، ولن يحدث في المدى المنظور، وذلك لتعدد الإرادات، واختلاف الأولويات، وتناقض الأحلام والتمنيات، ونجاح فرسان العملية السياسية، شيعة وسنة، عربا وأكرادا، في إيقاظ العصبيات القومية والطائفية والمناطقية، وإغراق الجماهير في هموم البحث عن الغذاء والدواء والماء والهواء، والاعتياد على الفوضى والسياقة عكس السير، وحالها، في ذلك، كحال مركبات الحكومة على حدّ سواء.
وقد جرت العادة على أن تجاهد الحكومات في أغلب الدول الأخرى من أجل تحسين المتوفر وتطويره، وإصلاح ما يمكن إصلاحه في مجالات السياسة والاقتصاد والتعليم والزراعة والصحة والتجارة والصناعة والري والمواصلات والاتصالات، وبقدر المستطاع.
أما القائم اليوم في دولة عادل عبدالمهدي وكاكه برهم صالح ومحمد الحلبوسي فهو عراقٌ مولودٌ من عراق الذين سبقوهم، غازي الياور وإبراهيم الجعفري وجلال الطالباني ونوري المالكي وحيدر العبادي ومحمود المشهداني وفؤاد معصوم وأسامة النجيفي وصالح المطلق ورافع العيساوي وهوشيار زيباري ومسعود البارزاني وسليم الجبوري.عراق يتقافز من أسوأ إلى أسوأ، ومن فشل إلى فشل، ومن فساد إلى فساد. دولة تجلس بالمقلوب. وعربة قطار لا تعرف السياقة إلا بعكس السير. ومن له رأي آخر عليه أن يسأل رئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة، ولله في خلقه شؤون.