لم يتبقَّ للحريري كي يواجِه كرئيس حكومة إلّا صلاحية دعوة الحكومة إلى الإنعقاد، المُناطة به حسب الدستور، لكن حتى امتناعه عن الدعوة إلى جلسة لمجلس الوزراء لا يعكس رغبته الحقيقية. فلقد قدّم «كلّ شيء» ليصل إلى مرحلة التوافق في الحكومة والسير بما يلزم لتنفيذ مؤتمر «سيدر»، خشبة الإنقاذ الوحيدة المتوافرة بالنسبة إليه. إلّا أنّ تداعيات حادثة قبرشمون إلى تصاعد ولا بوادر حلحلة قريبة لهذه الأزمة. لذلك قرّر الحريري الإعتكاف إلى أن «يتّفقوا».
الجميع يملكون هامشاً للتراجع أو التنازل أو التضحية، أمّا هو فـ«ما بقى عندو شي» يقدّمه للأطراف الأخرى بغية تسيير البلد والدولة. يُمكنه فقط تقديم استقالته، لكن هذه الخطوة في المرحلة الراهنة ستشكّل الضربة القاضية لأيّ إحتمال للنهوض.
وعلى رغم أن لا علاقة للحريري بحادثة قبرشمون، وأنّه امتنع عن دعوة الحكومة للإنعقاد منعاً لتفجيرها من الداخل، إلّا أنّ البعض يحاول تحميله مسؤولية عدم الدعوة إلى جلسة، الأمر الذي يوحي بالنسبة إلى فريق رئيس الحكومة بأنّه محاولة لإستهدافه وحكومته لأهداف أبعد من مصير قضية قبرشمون.
لكن، أيّ محاولة لقلب الطاولة على الحريري لن تؤثّر على رئيس الحكومة، فهو لن ينجرّ لا إلى حرب صلاحيات ولا إلى قرارات - ردات فعل. «يمكنهم قول ما يريدون ولن يردّ. أمامهم خيار واحد فقط أن يستقيلوا، وبالتالي يُقيلون الحكومة»، على ما يؤكّد مطّلعون على مواقف الحريري.
لكن، لماذا لا يرفع رئيس الحكومة مسؤولية عدم إنعقاد الحكومة عنه ويدعو إلى جلسة؟ تجيب مصادر تيار «المستقبل»: «عَقْد جَلسة قد يُحرج رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط ما يُؤدّي إلى إستقالته أو إلى إستقالة أفرقاء آخرين. ولا يُمكن الحريري أن يخاطر بذلك، فكلّ الإحتمالات مفتوحة».
ولا يقف الحريري منفرداً على جبهة عدم الدعوة إلى جلسة تحوي فتيل حادثة قبرشمون التفجيري، إذ إنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري ينصح بـ«تطويل البال» قبل عقد جلسة، وكذلك يلقى رئيس تيار «المستقبل» دعم حلفائه في هذا القرار.
هذا المسار الحكومي يدلّ بالنسبة إلى «14 آذاريين» إلى أنّ صلاحية دعوة الحكومة إلى الإنعقاد هي بيد الحريري دستورياً وشكلياً فقط، إذ إنّ «حزب الله» وحلفاءه يمنعون الحكومة من الإنعقاد من خلال عرقلاتهم، وبدأ ذلك ما قبل ولادة الحكومة مع تأخير تأليفها إصراراً على تمثيل «اللقاء التشاوري» بوزير...
كذلك بتغيُّبِ وزراء تكتل «لبنان القوي» عن الجلسة التي كانت محدّدةً في 2 تموز الماضي على رغم انتظار الحريري حضورهم نحو ساعتين قبل أن يُعلن تأجيل عقد الجلسة... وصولاً إلى رفض وزراء «حزب الله» و»لبنان القوي» المشاركة في جلسة لا يكون أوّل بند في جدول أعمالها إحالة حادثة قبرشمون إلى المجلس العدلي.
وعلى رغم كلّ الإحتمالات الواردة، يرى بعض مؤيدي الحريري أنّ عليه تقديم استقالته ليقلب هو الطاولة عليهم ويضعهم أمام الأمر الواقع، إذ إنّ تعطيل «حزب الله» وحلفائه المستمر، يضع الحكومة «تحت رحمة الحزب» ويُضعف الحريري كرئيس للحكومة إلى حدّ إلغاء دوره.
يعتبر «مستقبَليون» أنّ أيّ موقف للحريري لقلب الطاولة سيكون على طريقة شمشون: «عليّ وعلى أعدائي». فقلبُ الطاولة لا يُحرج الطرف الآخر فحسب، بل «يخرب بيوت» اللبنانيين جميعاً. ويعي رئيس الحكومة هذا الأمر تماماً، ما يُبقيه صابراً على كلّ ما يحصل ويتعرّض له.
أمّا بالنسبة إلى الإستقالة فهي غير واردة لدى الحريري، إذ من غير المؤكّد أنها ستشكّل ورقة ضغط على «حزب الله» وحلفائه، ومن غير المحسوم أنهم سيسمّون الحريري مجدداً لتأليف الحكومة وسيعطونه هامشاً لتسيير العمل الحكومي، فقد يغامرون ويسمّون عبدالرحيم مراد أو فيصل كرامي أو حتى أسامة سعد.
وحتى لو أعادوا تكليف الحريري لتأليف الحكومة، فهذا الأمر لن يحلّ مشكلة التعطيل والأزمات، بل سيفاقمها على ما يعتقد الحريري، الذي يرى أنّ مجرّد استقالته حالياً وبالتالي استقالة حكومته في ظلّ التصنيف الإئتماني الحالي والوضعين الإقتصادي والمالي، ستدفع البلد إلى الإنهيار، وبعدها لن تتمكّن أيّ حكومة برئاسة الحريري أو غيره من لملمة تداعيات هذه الاستقالة.
إذاً، الإعتكاف يبقى أهون الشرور بالنسبة إلى رئيس الحكومة في ظلّ الوضع الحالي الشديد الخطورة، إذ إنّ مقرّرات مؤتمر «سيدر» التي تَمكّن عبر علاقاته الدولية من تشكيل مظلّة أمان حولها، ما زالت قائمة إلى الآن. لكن السؤال: ما هي حدود هذه المظلّة الزمنية؟ بالتأكيد، ليس إلى أبد الآبدين.
في المحصلة، الحريري يواجه بالدستور والصبر، بصرف النظر عن أسباب تعطيل الحكومة، وإذا كانت أبعادُها تقف عند حدود قبرشمون أو تُستخدَم هذه الحادثة لإفتعالِ أزمةِ حكومة، ثمّ تحويلها إلى أزمة حكم بغية إعادة النظر في النظام كلّه.
ويرى قريبون من الحريري أنّه مُعتكف راهناً، فالإعتكاف هو لأمدٍ محدَّد وليس دائماً، ولا يحدّد أيُّ رئيس حكومة مدة إعتكافه، بل يعتكف إلى حين يتحقّق ما يراه مناسباً، وفي حال الحريري، فهو معتكفٌ إلى حين التوافق على عقد جلسة من دون طرح مسألة حادثة قبرشمون وإحالتها إلى المجلس العدلي أو التوافق بين المتنازعين على حلٍّ آخر.
ولا يُمكن أحد أن يدفع الحريري إلى الدعوة إلى جلسة تفجّر حكومته، حتى لو كان رئيس الجمهورية، ولن يدعو إلى جلسة إلّا حين يضمن أنّ حادثة قبرشمون لن تُطرح من خارج جدول الأعمال، ورئيس الجمهورية لم يُعطِ هذه الضمانات بعد.