دخلت «النهار» عامها الثامن والثمانين. بدأت قبل 87 عاماً في مبنى عتيق من «سوق الطويلة»، بأربع صفحات يصدرها شاب عصامي لامع يدعى جبران تويني، بيروتي عتيق، لا يفارق رأسه الطربوش. توفي في التشيلي وهو سفير يجول في أميركا اللاتينية، ليحشد التأييد للقضية الفلسطينية.
على أثر وفاته، ترك ابنه البكر، غسان، دراسة الفلسفة في «هارفارد»، وعاد إلى لبنان، ليتسلم الجريدة، ويصبح في الوقت نفسه أصغر نائب منتخب في تاريخ لبنان. مع غسان تويني تطورت «النهار» على مراحل، حتى أصبحت الصحيفة الأكثر أهمية ومبيعاً. مثله كانت ليبرالية ومنفتحة ووسيعة الصدر. اليمين ظنها جريدته، واليسار ظنها صحيفته، والوسط كان على حق في ادعائه.
في بداياتها مع المؤسس، كانت «النهار» جريدة البورجوازية البيروتية، السنة والأرثوذكس. غسان جعلها صحيفة كل الطبقات وكل لبنان. كان في طبيعته وثقافته أكثر ميلاً للغرب، لكن السفير السوفياتي كان أحد زواره الدائمين. فتح أبواب «النهار» أمام جميع الناجحين: كتاباً وشعراء ومسرحيين واقتصاديين ورياضيين ومحرري سباق الخيل.
أعطى كل مسؤول مسؤوليته، وكل كاتب حريته. وكان يقول لبعض المحررين ضاحكاً: «اقرأني اليوم، فأنا أحاول أن أقلد إنشاءك». وصباح كل اثنين، كان لبنان برمّته يسارع إلى قراءته، بدءاً بالقصر الجمهوري. كان سيد المقال الافتتاحي. وكان مكتبه في الطابق التاسع من مبنى «النهار» ملتقى يومياً لكبار السياسيين، يطبخون معاً وجبات المعارضة.
كان أنيقاً على نحو كلاسيكي. وأديباً في الطعام، مقلاً. وكان كريماً. وكان يخفي خلف صورة الوجاهة والكياسة قوة جبار أسطوري. فقد طفلته الأولى في المرض. وفقد زوجته الأولى ناديا، أيضاً. ثم فقد نجله الأصغر، مكرم، في حادث سيارة. وانتهت عائلته يوم اغتيل ولده جبران، الذي أسس «النهار التكنولوجية» على بعد أمتار من مقرها الأول في سوق الطويلة.
قليلاً ما شاهدته يبكي. لكن عندما تحدثت إليه في باريس بعد وفاة مكرم، كان صوته مبللاً مثل نهر. وكان يصر أن يتحدث عن مفقوديه بصيغة الحاضر. رافقته في الأسفار، غالباً مع «أعز أصدقائه» مروان حمادة، في نيويورك وواشنطن، ومدينة كيبك، ودبي، والكويت، والرياض، والقاهرة، وباريس. لم أسمع منه مرة كلمة جارحة في حق أحد. ولا كلمة طائفية. ولا مذمّة.
في عصره ازدهرت الصحافة اللبنانية كلها لأنه خط النموذج. وبعد مقتل جبران، شعر أن الصحافة توسعت جبهات بقائها. وأوكل الاستمرارية إلى حفيدته نايلة. ابنة جبران. ولا يزال الشعار الذي وضعه قائماً: «كلما صاح الديك، طلع النهار».