قد تكتب، ولكن لن يسمح لك الفقر والجهل والتخلف بالكثير. ولذلك لا تفرش سجادة الآمال ولا تزرع زهور التمني في طريق الحصى والأشواك الذي تمشي عليه.
في بيئة عربية مريضة، كالتي تعرفها، فنحن نكتب من أجل أن نكتب. إنه مرض. وليس بوسعنا أن نداويه، إلا “بالتي كانت هي الداء”.
الأمر مختلف في بيئات أخرى. الإحصاءات المتاحة تشير إلى أن المواطن العربي ينفق 6 دقائق على القراءة كل عام، بينما ينفق الأوروبي 200 ساعة. ولا أعرف كيف يجوز أن نعتبر أنفسنا “أمة كتاب”. كما لا أعرف ما هو العجب الذي جعل أمة بدأ كتابها بكلمة “اقرأ” وظلت لا تقرأ بعناد.
هناك محاولات نبيلة تبذلها بعض المؤسسات الثقافية الرسمية، في بلد عربي واحد هو الإمارات، من أجل التشجيع على القراءة وتداول الكتاب. وهي محاولات تنتمي إلى عالم الدقائق الست، بينما يغرق باقي العالم العربي في ديجور تام. توجد كهرباء. ولكن الظلام دامس هناك، ولا أعرف لماذا توجد كهرباء من الأساس.
لا نفع في جلد الذات أيضا. فهذا هراء جربناه طويلا، ولم ينته بيقظة وعي ولا حتى ضمير. الموتى لا يعانون من وخزات الضمير. يجب أن نترك مجرى المياه الآسنة يمضي حتى النهاية. القراءة ما لم تفرضها الحياة، فليس ثمة ما يدعو لمطاردتها. عندما يموت الموت، قد تنشأ بداية أخرى.
نحن أمة جهل. وهذا مفيد، لأنه يجعل انقراضنا أسرع. والانقراض السريع للأمراض السارية والمعدية، يخدم الإنسانية.
كتابنا محفوظ. لن يمسه شيء. وثمة أمم أخرى تقرأه وتغرق في تقديسه. والكثير من أبناء تلك الأمم يحفظون آياته، ويفهمونها رغم أنهم لا يجيدون الحديث بالعربية. شيء عجيب. ولكنه من سحر ذلك الكتاب نفسه.
ولدينا أدب هائل في جماله وبراعته وكمال بيانه. هو الآخر محفوظ بأمن وسلام. لا خوف عليه، ولا هم يحزنون. صحيح أن بعضه يتقادم، إلا أن هناك، من بعض أبناء “أمة الست دقائق”، من يجدون فيه نفعا، فيستلهمون منه ما يستلهمون.
الحياة تمضي، كما يمضي الموات.
القراءة تتحول إلى عادة غريبة. شيء شاذ. وهذا حسن. نحن الشواذ، وإن كنا قلة زائلة، فإننا لن نقلق راحة أحد بإزعاجه بالحديث عن أي كتاب. ولا حتى القرآن. قال “أمة كتاب”، قال.
نحن لا نستحي. وهذا فيه من الإيجابية ما يجعلنا وقحين وأذلاء. وقاحتنا على الحق، وذلنا مع الباطل. وهذه من أفضل سمات الأمم التي يحسن أن تبتليها الحياة بكل الأمراض، أو أن تتحول إلى مكب نفايات.
لا شيء يمكنه أن يتغير. نحن نواجه أسئلة محرجة من قبيل “لماذا نتأخر ويتقدم الآخرون؟”. ورغم كثرة الإجابات وتعدد مواردها، فقد بقينا بثبات وإصرار، نتأخر وكأننا في سباق مضاد مع حركة التاريخ. حتى تحوّل الأمر إلى منهج دعوي متفش يقترح علينا، بثبات وإصرار، أن نعود إلى الوراء.
وكلما قلنا له “يا أخ نحن في الوراء أصلا”، قال “لا، وراء الوراء، إلى يوم كان لدينا خلفاء”. قلنا “يا أخ، مَنْ منهم؟ فثلاثة منهم قتلوا. وإذا اخترت واحدا، فلماذا لا تختار الآخر؟ ألا ترى أن ‘وراءك’ هو بحد ذاته مشكلة؟”. قال “سوف نحلها بقطع الرؤوس، على طول الطريق، من هنا إلى هناك”.
لقد أصبح الوراء أملا. ليس من ظلمة الحاضر وليس لأنه حل. ولكن لأن “أمة اللاكتاب” لم تر النور وأغلقت دفتي الكتاب. كل كتاب. شيء ما في جاهلية النفس جعل الظلمة هي السائد، وهي الأساس.
أفهل هناك أمل؟ لا يحسن بأي أحد أن يمارس الخداع. المستنقع الذي ظل راكدا لأكثر من ألف عام، سيظل راكدا لألف أخرى. تلك هي المصائر. إنها جافة كخشب قديم، حتى ينشأ جيل يتبرعم على قراءة واهتمام بالمعرفة، ويذهب إلى الصين بحثا عن العلم. نحن نبحث الآن عن الجهل. ويهمنا قفا كاردشيان، أكثر مما يهمنا كيف تصنع هواوي جيل الاتصالات الخامس. سوف نستخدمه قطعا. ولكن من أجل أفخاذ هيفاء وأقدام ميسي.
من الخير أن نقطع الكهرباء. ونكف عن استخدام الإنترنت. أما “التلفون الذكي” فإنه إذ يحط بين أيدٍ غبية، فإنه لن يقدم فائدة حقيقية لأي أحد.
إحدى أهم ميزات التخلف، وأكثرها إنارة للفهم، هي أن أهل التخلف يُخلّفون كل ما هو متقدم قد يقع بين أيديهم. شيء يشبه الذي كلما وضع يديه على ذهب، حوّله إلى تراب.
ولقد خسرنا الكثير. كيان تافه مثل إسرائيل، قام على دعاوى سخيفة ونظريات وهمية وأعمال همجية، صار بوسعه أن يتحكم بمصائرنا، ويعرض علينا صفقات غبية. شيء عجيب فعلا. ولكن لا عجب. ذلك أن أمة اللاكتاب التي بدأت مواتها بالقول “اجهل” بدلا من “اقرأ”، كان من الطبيعي أن تنتهي إلى إثارة مشاعر الأسف والحسرة بين الناظرين إلى بقاياها من خلف زجاج متاحف التاريخ.
“هذا عربي من أمة لا تقرأ”. يقول الديناصور المجاور. “لا تأسف” قال الآخر، “نحن لسنا وحدنا، إذن”.