منذ «تجربة الاستقالة» قبل عامين، حاول «حزب الله» إراحة رئيس الحكومة إلى الحدّ الأقصى، لأنه لا يريد ذريعة يستخدمها أحد لإسقاط تسوية 2016. لذلك، مرّر قانون انتخاب وانتخابات نيابية وحكومةً يرضى بها الحريري وحلفاؤه الإقليميون، وأوحى أنّ للرجل هامشاً واسعاً من الحركة الداخلية.
عندما دخلت إيران في مواجهة قاسية مع واشنطن، صار «حزب الله» أمام تحدٍّ مصيري. فالأميركيون يريدون «قصقصة جوانح» إيران في الشرق الأوسط، وفي مقدمها «حزب الله». لذلك، يقاوم اليوم محاولات «تدجينه»، ويلتفُّ عليها بتدعيم مواقعه في المؤسسات والإمساك أكثر بالقرار السياسي.
وهذا ما فاقم المشكلة عند الحريري، كما عند حلفائه في الخط السياسي، جنبلاط وجعجع خصوصاً، إذ إنّ الهدف إضعافهم والحدّ من تأثيرهم في المعادلة:
- الحريري فُتِحَت عليه أبواب البحث في الطائف والصلاحيات.
- جنبلاط فُتِحَت عليه الحرب… والملفات الخطرة.
- جعجع فُتِحَت عليه عملية عزل سياسي.
والمثير أنّ المواجهات الثلاث: الحريري وجنبلاط وجعجع لا يخوضها «الحزب» أبداً. وعلى العكس، هو يظهر فيها أقرب إلى المحايد أو الوسيط، وإنْ كان لا يخفي دعمه لحليفه إرسلان. وإجمالاً، المعركة يخوضها «التيار الوطني الحرّ» على المحاور الثلاثة في آن واحد، ويستخدم في كل منها السلاح الملائم.
المطلوب إضعاف الجبهة المناوئة لـ«الحزب»، والتي تتلقّى الدعم من الولايات المتحدة وقوى إقليمية، بحيث تفقد القدرة على التشويش في الداخل وزعزعة سيطرة «الحزب» على القرار السياسي. وعلى الأرجح، تحقَّق هذا الهدف.
صار الحريري وجنبلاط وجعجع تحت الضغط. وينشغل كل منهم بالدفاع عن نفسه: الحريري يقاوم للحفاظ على دوره وموقعه في مجلس الوزراء. جنبلاط يقاوم احتمال أن يقع في نموذج جعجع و«سيدة النجاة». وجعجع يقاوم جموح «التيار» إلى الأحادية المسيحية على أبواب التحضير لانتهاء عهدٍ وبداية آخر.
طبعاً، «التيار» لا يؤدي مهماته مجاناً. هو يحصل على مكتسبات كبيرة في السلطة والنفوذ والمواقع. وفي المقابل، يقدم خدمات «استراتيجية» لـ«الحزب»، ويحقِّق هدفه بحماية تسوية 2016، من خلال إغراء الحريري بالمكتسبات المختلفة، فلا يفلت منها.
وأما الحريري فمحشور في اللعبة. لا هو قادر على التصعيد وقلب الطاولة، ولا هو قادر حتى على التضامن حتى النهاية مع جنبلاط، ولا مراعاة هواجس جعجع، على رغم اقتناعه الكامل بأنهم ثلاثتهم مستهدفون معاً. وكلما درس مسألة خروجه من السراي تأكّد مجدداً أنّ خسائره ستكون أكبر.
ويقول البعض: هي ليست فقط اعتبارات السلطة والزعامة السنّية في الداخل، بل هناك، على الأرجح، اعتبارات أخرى. فليس بسيطاً ما يمنحه موقع رئيس الحكومة اللبنانية من غطاء خارجي أيضاً.
لذلك، هو يريد البقاء في السراي حتى إشعار آخر، وحلحلة الإشكالات بهدوء وبلا تدخّلات خارجية. ويدرك «الحزب» وحلفاؤه نقطة ضعف الحريري. ولذلك، هم يمعنون في الضغط عليه.
هذه المعادلة عادت تستفزّ الجهات الدولية والعربية الداعمة للحريري وفريق 14 آذار. وتحدثت معلومات عن مناخ يتبلور أكثر فأكثر، لدى قوى عربية نافذة، يطالب الحريري بالانسحاب من اللعبة إذا كان سيستمرّ عاجزاً عن وقف الانزلاق في مسار التنازلات.
وهذه المطالبة التي طُويت منذ خريف 2017، عادت اليوم. والجولات العربية التي يقوم بها رؤساء الحكومة السابقون تترجم هذا التوجّه. وقد وضع الحريري في أجواء التوجه الجديد.
لذلك ارتأى أن يتجنّب المواجهة مرحلياً، من خلال عملية اعتكاف غير معلنة، والإكثار من رحلاته الخارجية. وفي اعتقاده أنّ الاعتكاف يجب أن يكون خياراً مقبولاً في نظر الذين يطالبونه بالاستقالة.
ولكنّ مأزق الحريري يكمن في أنه لا يستطيع المضيّ في إقفال باب مجلس الوزراء، فيما الاستحقاقات الاقتصادية داهمة. فالاستحقاق المالي ومستلزمات «سيدر» والمساعدات وتقارير مؤسسات التصنيف الدولية كلها تستدعي انعقاداً عاجلاً لمجلس الوزراء.
لذلك، هو يعيش فترة إرباك حقيقي، ويراهن على ما يمكن أن تحمله التطورات الإقليمية ليحدّد أيَّ اتّجاه سيختار. ويتحدّث المتابعون عن تحوّلات سياسية مفاجئة قد تقلب المناخات السائدة وتريحه من الضغوط الخارجية.
ملامح هذه التحوّلات ظهرت في إعلان مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني أنّ رسائل إيجابية وصلت إلى طهران من السعودية، «فردّت عليها إيجاباً. وأولى الرسائل هي التعامل إيجاباً مع الحُجّاج الإيرانيين، وستعقبها خطوات سعودية إضافية». وقال: «يمكن أن تتعاون السعودية مع دول الخليج الأخرى على تعزيز أمن المنطقة».
وهذا المناخ المستجد مهَّد له وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف، الأسبوع الفائت، إذ قال: «مستعدون للحوار مع السعودية إذا كانت هي مستعدة لذلك. ونحن لم نغلق باب الحوار مع دول الجوار، ولن نغلقه مطلقاً».
إذاً، بالنسبة إلى الحريري، «قليل من الاعتكاف» قد يفيد في المناورة، أما الكثير منه فسيدمر البلد. والقليل من انتظار التحوّلات الإقليمية ربما يخدِّر الوجع، وأما الكثير منه فسيدمّر البلد أيضاً. فهل سيوفَّق الحريري في شراء الوقت؟