لعل أسوأ كارثة حلت بالأمة العربية طوال القرن العشرين، كانت تلك التي تمثلت في حالة الانسداد التاريخي التي أغلقت باب الاجتهاد، وضيقت الواسع، وجعلت القشور أهم من اللباب، ومن دون فهم عميق رصين للأهداف الكلية والجزئية للشريعة السمحة.
والشاهد أن المرأة بنوع خاص تعرضت لعسف وخسف شديدين في ظلمات ذاك الانسداد، رغم أن الأصل في الإسلام أنها كانت شريكاً أساسياً في فجر الدعوة، في تحمل المسؤوليات وتصريف شؤون ورعاية ومصالح الأسرة، وفي الحديث «النساء شقائق الرجال»، بل إن النص القرآني عينه يعتبر المرأة آية من آيات الله، وليس عورة كما صورها دعاة الرجعية (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة) «سورة الروم: 21».
القابضون على جمر التغيير الخلاق، والذي يتساوق مع الضمانات الشرعية والنظامية، ويتلافى الأخطاء، ويسد الأبواب أمام الشبهات والشكوك، هم رجال لا يتوفرون في كل الأزمان، إنهم يفكرون بحزم ويعملون بعزم، وغايتهم قيادة مواطنيهم إلى رحاب التنوير العقلاني والإيماني.
تأتي القرارات الجديدة الخاصة بتعديل أنظمة التأمينات ووثائق السفر والأحوال المدنية والعمل والتأمينات الاجتماعية في إطار نقلة نوعية وفكرية يقودها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، نقلة تعزز من واقع وحاضر المملكة في قادم أيامها وتدخل بها بقوة وثبات إلى 2030 وهي فتية أكثر، مؤمنة بعمق، فاعلة بقوة في محيطها الإقليمي، وصاعدة إلى أعلى عليين في سياقاتها الدولية.
عرفت المرأة عبر التاريخ الإنساني بأنها نصف المجتمع، وعليه فإن أردت نهضة حقيقية لتجمع بشري، فليس عليك إلا أن تعطي المرأة حقوقها، وأن تجعلها سنداً ومعيناً في عملية البناء والتنمية، ومن دون أن يعني هذا أن تغفل أحد أهم أدوارها بل الدور الرئيسي، ألا وهو تربية النشء الصالح.
ولعل الناظر إلى تجارب المرأة في القرن العشرين يرى كيف أن نساء ألمانيا قد لعبن دوراً إعجازياً بعد الحرب العالمية الثانية، في إعادة بناء دولتهن التي هدمتها الحرب، وصور النسوة الألمانيات وهن يعملن في تنظيف الشوارع، وترميم المنازل، وبناء الجدران، تؤكد ما للمرأة من قيمة مضافة بالنسبة لاقتصادات الدول، وقد بلغت المرأة هناك منصب المستشارية، حيث قادت أنجيلا ميركل أقوى اقتصاد أوروبي في التاريخ الأوروبي المعاصر.
السماح للمرأة في المملكة بقيادة المركبات منذ عامين وبتوجيه من خادم الحرمين الملك سلمان، تتبعه اليوم قرارات جريئة وبنيوية تسمح لها بحمل جوازات السفر واستخراجها دون ولاية من الرجل، خطوة جبارة وريادية في طريق استرجاع حقوقها الشرعية قبل أي شيء آخر، ذلك أن سن التكليف شرعاً هو البلوغ، وللمرأة المكلفة حقوق كفلها الشرع، ولا يجوز التعدي عليها. تفتح المملكة العربية السعودية في الوقت الراهن أبوابها أمام التحرر من ربقة المتزمتين، أولئك الذين درجوا على التلاعب بجوهر الإيمان وبمستقبل الإنسان، وها هو الإسلام الفطري الوسطي السمح الذي تحدث عنه الأمير محمد بن سلمان أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، يعود ليشرق على الداخل، وليجعل الخارج يراجع أوراقه، ولا يضحى المسلم في عيون الغرب، وعند مروجي الإسلاموفوبيا إرهابياً أو مشروع إرهابي، بل ركن من أركان بناء حضارة الإنسان، تلك التي تشارك فيها المرأة السعودية الرجل، وتشد من أزره، وتدفع اقتصاد البلاد إلى الذرى، وتجعل من حياة العباد طيبة هانئة في الحال والاستقبال، وفي الحل والترحال.
قال مرة سقراط أبو الفلسفة «إن المرأة العظيمة هي التي تعلمنا كيف نحب عندما نريد أن نكره، وكيف نضحك عندما نريد أن نبكي، وكيف نبتسم عندما نتألم».
أحدثت القرارات الجريئة الأخيرة ردود فعل إيجابية عالية وغالية القيمة حول العالم، والذي اعتبر بشرقه وغربه ما جرى صحوة إنسانية وحقوقية، أخرجت المرأة السعودية من دائرة وأجندة المزايدين عليها دينياً أو اجتماعياً، وانتشلتها من وهدة الاستعراضات السياسية المغشوشة غالباً.
حين يجيء القرار السعودي المقدام من قلب المملكة، فإن المعنى والمبنى واضحان، إنها الإرادة السعودية، من دون إرهاصات الإخوان، ولا أراجيف من على شاكلتهم، وبعيداً كل البعد عن ضغوطات وصرخات المنظمات الأجنبية ذات التوجهات غير الوطنية، والتي لا يهمها سوى إزعاج أهل الحل والعقد وتعطيل مسيرة النمو والاستقرار بذرائع واهية.
حين تقود الدبلوماسية السعودية في الولايات المتحدة الأميرة ريما بنت بندر، بتكليف من خادم الحرمين، فإن ذلك يضفي مصداقية على رغبة المملكة في مساواة حقيقية تؤكد وتعزز المشاركة المجتمعية كطريق لنهضة حقيقية غير أبوكريفية.