يس ما يدعو إلى التفاؤل في لبنان. هناك انهيار حقيقي وكامل للتسوية التي جاءت بميشال عون رئيسا للجمهورية في العام 2016 وذلك على الرغم من أنّه كان مرشّح “حزب الله”. تكشف الحملة المدروسة التي يتعرّض لها وليد جنبلاط، والدروز عموما، أنّ هناك من يسعى إلى تصفية حساباته مع رجل، له ما له وعليه ما عليه، لكنّه لم يتردّد في مرحلة معيّنة من الوقوف في وجه القوى التي أرادت تحويل اغتيال رفيق الحريري إلى مجرّد حادث سير أو “رذالة” على حد تعبير إميل لحّود رئيس الجمهورية وقتذاك.
كان الهاجس الأوّل لدى القوى السيادية في لبنان، مباشرة ما بعد اغتيال رفيق الحريري، التخلّص من الوجود السوري. لم يكن هذا الوجود سوى احتلال بكلّ ما في كلمة احتلال من معنى. لا يشبه الاحتلال السوري للبنان في الماضي غير الاحتلال الذي يُمَارسُ على سوريا منذ تولّى حزب البعث السلطة في العام 1963، تمهيدا لصعود الضباط العلويين إلى الواجهة في 23 شباط – فبراير 1966 وقيام نظام حافظ الأسد، ابتداء من السادس عشر من تشرين الثاني – نوفمبر 1970.
انهارت سوريا في عهد بشار الأسد الذي اختلف عن والده وذلك بعد فشله في فهم طبيعة لبنان من جهة، ومعنى الانسحاب منه عسكريا وأمنيا وأبعاد ذلك من جهة أخرى. دفع بشار الأسد ثمن الدخول في لعبة التخلّص من رفيق الحريري، وهي لعبة إيرانية في الأساس. ما نمرّ به حاليا، هو مرحلة الفشل اللبناني في حماية البلد في وقت يستكمل “حزب الله” انقلابه الذي بدأ في 2005 في وقت كانت المنطقة تشهد انطلاقة جديدة أكثر هجومية للمشروع التوسّعي الإيراني الذي وجد في ربيع العام 2003 رئيسا أميركيا، اسمه جورج بوش الابن، يسلمّه العراق على صحن من فضّة.
بلغ لبنان في صيف العام 2019 مرحلة تبيّن فيها أن التسوية الرئاسية لم تكن قائمة على أسس متينة بأي شكل. بموجب هذه التسوية التي جاءت بميشال عون إلى قصر بعبدا، كان مفترضا أن يلعب رئيس الجمهورية دور الحَكم، وأن تتحوّل الكتلة النيابية لـ”التيار الوطني الحر” إلى بيضة القبان في مجلس النواب، بعدما لعب وليد جنبلاط هذا الدور طويلا. لعب الدور بفضل كتلة نيابية تضمّ أعضاء مسلمين ومسيحيين في الوقت ذاته. تضمّ تلك الكتلة، التي أجري تقليص لعدد أعضائها، نوابا مسيحيين يمتلكون رؤية وطنية شاملة بعيدا عن أي نوع من التعصب والانغلاق. كان هؤلاء النواب يلعبون دورا على صعيد رفع مستوى الخطاب السياسي المسيحي في اتجاه تكريس صيغة العيش المشترك في كلّ منطقة من المناطق اللبنانية.
ما يحدث الآن أن رئيس الجمهورية تخلّى عن لعب دور الحكم، فيما يبدو واضحا أن وليد جنبلاط صار مستهدفا شخصيا، إضافة إلى النائب والوزير أكرم شهيّب الذي يعبّر إلى حد كبير عن المزاج الدرزي في الجبل اللبناني، خصوصا في مناطق مثل عالية والشوف والمتن الجنوبي.
كانت الحسابات التي استندت إليها التسوية الرئاسية تستبعد الانتهاء من وليد جنبلاط. كان مطلوبا الاكتفاء بتقليص الحجم السياسي للرجل ولدوره على الصعيد الوطني، لكنّه يظهر حاليا أنّ هناك حاجة إلى الذهاب إلى أبعد من ذلك بكثير، على الرغم من أن وليد جنبلاط عمد إلى إبقاء قنوات الحوار مفتوحة مع قصر بعبدا. كذلك، قبل جنبلاط أن يكون في الحكومة وزير درزي ثالث من خارج كتلته النيابية.
هناك خوف حقيقي من وجود مخطط مدروس بعد كلّ المناورات التي رافقت حادث قبر شمون الذي قتل فيه شابان درزيان ينتميان إلى الفئة الدرزية الصغيرة المعادية لوليد جنبلاط. هناك، بكلّ وضوح، رغبة في الذهاب إلى النهاية في استغلال الحادث من أجل تطويق وليد جنبلاط وعزله نهائيا وذلك في ظلّ معطيات لا تسمح لرئيس مجلس النواب نبيه برّي بتوفير أيّ حماية لشخص، مثل وليد جنبلاط، يعتبر حليفا، بل صديقا قديما له. تبيّن أن ثمة حدودا لما يستطيع نبيه برّى القيام به من أجل الزعيم الدرزي اللبناني.
دخل لبنان مرحلة جديدة في ضوء سقوط التسوية الرئاسية. كان يمكن التردّد في الحديث عن مثل هذا السقوط لولا الضغوط التي تمارس على رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري كي يساهم في عملية عزل وليد جنبلاط. أكثر من ذلك، يبدو مطلوبا من الرئيس الحريري التخلّي عن جزء لا بأس به من صلاحيات رئيس مجلس الوزراء، والاندفاع في اتجاه عقد جلسة للحكومة يجري فيها تصويت على إحالة جريمة قبر شمون إلى المجلس العدلي بما يسهل الوصول إلى وليد جنبلاط أو إلى وزير التربية الحالي أكرم شهيّب.
يمكن وضع كلّ هذه التطورات في إطار أوسع هو إطار جعل لبنان يدور في الفلك الإيراني. تبدو إيران في حاجة أكثر من أيّ وقت إلى الورقة اللبنانية. مطلوب، بكلّ بساطة، إسكات كلّ صوت لبناني يعترض، أو يمكن أن يعترض مستقبلا على ما تقوم به “الجمهورية الإسلامية” التي دخلت في مواجهة حقيقية مع الإدارة الأميركية.
تبيّن بكلّ بساطة أن الانقلاب الكبير الذي بدأ باغتيال رفيق الحريري يسعى إلى تجديد شبابه عن طريق إطاحة التسوية الرئاسية، وضرب أسس هذه التسوية والسير في اتجاه التركيز على ضحيّة جديدة اسمها وليد جنبلاط بكلّ ما يمثّله على الصعيد الوطني وحتّى سوريّا، وإنْ في حدود ضيّقة.
أي لبنان بعد سقوط التسوية الرئاسية؟ إلى أيّ مدى يمكن لسعد الحريري الصمود بعدما تحوّل الرجل إلى الحصن الأخير في وجه منع أن يكون السقوط اللبناني نهائيا؟
الثابت أنّ كلّ كلام عن إعادة الحياة إلى التسوية الرئاسية التي لعب الدكتور سمير جعجع، رئيس “القوات اللبنانية”، دورا في الوصول إليها يبدو أقرب إلى الوهم من أيّ شيء آخر. فكلام جعجع إلى الزميل مرسيل غانم مساء الجمعة الماضي يشكلّ أكبر دليل على ذلك. فمجرّد أن يقول رئيس “القوات” إن رئيس الجمهورية ينهي كلّ اجتماع معه بدعوته إلى التفاهم مع صهره جبران باسيل يقول الكثير، بل يقول كلّ شيء عن تسوية لم يبق منها سوى النيات الطيّبة. إنّها نيّات طيّبة موجودة لدى أشخاص كانوا يعتقدون أنّ لبنان لا يمكن أن يبقى من دون رئيس للجمهورية… حتّى لو كان هذا الرئيس مرشّح “حزب الله” للرئاسة. تبيّن، بكل بساطة، أن النيات الطيبة ليست كافية عندما يتعلّق الأمر بالتعاطي مع أطراف مرتبطة عضويا بإيران… مثل “حزب الله”.