صحيح انّ الجدل السياسي يتمحور في العلن على تسويات مَمجوجة للصيَغ القضائية لحادثة قبرشمون، الّا انّ الصراعات الفعلية في الكواليس والحسابات التي يجري وضعها ترتبط بالتوازنات السياسية الجديدة ورسم معادلة مختلفة عن التي واكبت النصف الاول من عهد الرئيس ميشال عون.
هي ليست استعادة مكررة لانقسام 8 و14 آذار بقدر ما هي إعادة توزيع للمواقع والتحالفات المعلنة أو المخفية، إنطلاقاً من تجارب السنوات الثلاث الماضية وتحضيراً للاستحقاقات المقبلة.
يتصرّف وليد جنبلاط على أساس انه اجتاز المسار الأصعب ونجح في إعادة تثبيت نفسه ودوره، ولو أنه يحسب لكثير من المعارك السياسية التي باشَر في خوضها. فقد نجح في إحراق ورقة المجلس العدلي، وهو يخوض الآن معركة إحراق ورقة المحكمة العسكرية، إضافة الى فتح معركة موازية بعنوان اكبر وبالتحالف مع الرئيس سعد الحريري وعنوانها «حماية اتفاق الطائف».
لذلك، تعمّد رئيس الجمهورية توجيه إشارة واضحة في خطابه في احتفال الفياضية بالتمسّك باتفاق الطائف، كي يقفل الطريق على السّاعين لنقل المعركة الى ساحة اتفاق الطائف. لكنّ طلبه من رئيس الحكومة دعوة مجلس الوزراء للانعقاد وفق صلاحياته الدستورية أشعَل فتيل هذه المعركة، بعدما صوّرها البعض أنها محاولة للتأثير على صلاحيات رئيس الحكومة.
وقد يكون أخطأ في السياسة لا في الدستور مَن نصح رئيس الجمهورية، الذي كان يريد بإعلانه موقفه القول إنه ليس هو مَن يمنع عقد جلسة لمجلس الوزراء، كما يعتقد العديد من السفراء الغربيين، رَمي كرة التعطيل عند الحريري. لكنّ هاجس «اتفاق الطائف» صار حاضراً على الطاولة وبتقاطع واضح مع ملف حادثة قبرشمون. فمثلاً، يربط الحزب الاشتراكي خيار اعتماد المحكمة العسكرية بإيكال «غير بريء» لقاض بدل آخر، والأهم تجاوز التحقيق الذي أجراه فرع المعلومات، ما يعني برأيه ضرب مصداقية «المعلومات» ودوره، وهو الذي يعتمد عليه الحريري.
لكن في المقابل يسأل الفريق الآخر عن السبب الذي حَدا بوليد جنبلاط على تبديل موقفه من المحكمة العسكرية ورفضه لها بعد أن كان مؤيّداً لهذا الخيار؟ وهو بذلك يغمز من الخلفية التي تدفع جنبلاط في هذا الاتجاه، وهو غَمزٌ يطال إشارات خارجية، خصوصاً انّ الفريق المناوئ لجنبلاط يكثر من تلميحاته للقاءات التي أجراها جنبلاط مع سفراء الدول الكبرى، وفي طليعتها الولايات المتحدة الاميركية، بعد يومين فقط على حادثة قبرشمون. ويعتقد هذا الفريق أنّ جنبلاط أثار هؤلاء السفراء حيال ما تجري حياكته ضده، ووفق خلفيات الصراع الاقليمي العريض، والهدف هو تطويقه وتنفيذه لاحقاً هجوماً سياسياً بتعاضد الحريري وسمير جعجع وتعاطفهما.
وفي هذا الاطار، يمكن وضع كلام جنبلاط بأنه مع «حزب الله» في الموضوع الفلسطيني فقط. كأنّ جنبلاط يقول فعلياً انّ صراعه الحقيقي هو مع «حزب الله».
في المقابل تقول مصادر ديبلوماسية غربية معنية انها ضد اي نية لتحجيم وليد جنبلاط او تحطيمه، وانّ موقفها هذا أظهرته في صيَغ عدة.
وكانت المصادر نفسها قد قالت، بعد ساعات معدودة على حادثة قبرشمون، انّ وليد جنبلاط لم يعد وحيداً. لكنّ هذه المصادر، الحريصة على إبراز موقفها بضرورة حماية جنبلاط، لم تقتنع بعد بوجود بصمات إيرانية تريد تعطيل الحكومة، وهي تحمّل الاطراف اللبنانية المسؤولية عن التعطيل. فلو كان «حزب الله» يريد فعلاً تعطيل الحكومة لكان موقف وزراء حركة «أمل» مختلف عمّا هو عليه اليوم. لا بل أكثر فإنّ جنبلاط تلقى جواباً عن سؤال وَجّهه الى «حزب الله» عبر شخصية نيابية قريبة منه، بأنّ الحزب يضمن له عدم وجود فخاخ في التصويت على المجلس العدلي في مجلس الوزراء، وانّ النتيجة ستكون 15 مقابل 15 ما يعني سقوط هذا الخيار. لكنّ جنبلاط بقي مرتاباً ولم يذهب الى هذا الحل، ربما لاعتقاده انّ الشارع الدرزي الذي التفّ بمعظمه الى جانبه قد لا يحبّذه.
وفيما تتساءل أوساط جنبلاط عن حقيقة تبدّل موقف رئيس الجمهورية من رفضه انعقاد جلسة مجلس الوزراء الّا بشرط طَرح خيار المجلس العدلي على التصويت وبعد حصول مصالحة تمنع اشتباكاً وربما أكثر بين الوزيرين الغريب وشهيّب، الى الدعوة للانعقاد من دون تأمين هذين الشرطيبن، فإنّ الفريق المناوئ له يأخذ عليه إحباط كل المخارج المطروحة لأسباب تتعلق بخلفيات خارجية، خصوصاً انّ أحداً لم يستهدف دوره سابقاً، وحيث جرى الوقوف عند رأيه لدى تعيين رئيس أركان الجيش، ولدى الدخول في محاصصة اعضاء المجلس الدستوري.
وفي رأي هذا الفريق انّ جنبلاط، الذي انقلب على خيار الذهاب الى المحكمة العسكرية، ينفّذ الآن هجوماً لترهيب القضاة والتأثير عليهم مسبقاً.
في اختصار الاشتباك الداخلي ذاهب الى تصعيد إضافي عنوانه هذه المرة «اتفاق الطائف»، فيما التأثير الخارجي يدخل في إطار رعاية وحماية المواقع والمعادلة السياسية الجديدة التي ستُشرف على النصف الثاني من عهد الرئيس عون.
الأوساط القريبة من الرئيس الحريري لا تخفي انزعاجها من بيان الرئيس عون حول «العشيرة»، وتقول إنّ ذلك يعني ضرورة الاحتكام للمؤسسات الدستورية دائماً لا انتقائياً ووفق المزاج، أي حين تلائمنا الامور فقط، وأن نعطّل المؤسسات حين لا تلائمنا.
ويقول مصدر ديبلوماسي غربي معني إنه ربما كان الافضل للوزير جبران باسيل أن يستمع للنصائح الأمنية ويؤجّل زيارته الى عاليه يومها، أو الذهاب الى خيار المواجهة الى النهاية وإكمال جولته، لا أن يبدأ بها وينسحب من نصفها.
في أيلول المقبل من المفترض أن يترأس رئيس الجمهورية الوفد اللبناني الى نيويورك للسنة الثالثة على التوالي. وأهمية هذه الزيارة تكمُن في التصويت الذي سيحصل في الأمم المتحدة في 13 ايلول لأكاديمية الحوار للأديان، والتي كان قد اقترحها في الأساس الراحل السفير فؤاد الترك، وسيكون مقرّها لبنان.
والسؤال: هل برنامج لقاءات الرئيس عون سيلحظ مواعيد مع كبار المسؤولين الغربيين، وسط غموض يَكتنف زيارة الرئيس الفرنسي للبنان التي كانت مقررة في تشرين المقبل بعد تأجيلها مرتين متتاليتين؟